بين السياسة والبوليتيك

إحدى جلسات البرلمان الجزائري
تكثر التعاريف والمفاهيم التي تُعنى بدراسة الظاهرة السياسية، حتّى أنّ دراسة العلوم السياسية تتطلّب في بدايتها قراءة كتب المدخل إلى علم السياسة من أجل تهيئة الأرضية الفكرية اللازمة لفهم النظريات والمقاربات السياسية، وهي كثيرة ومتنوّعة، حيث تتعدّد المدارس والاتّجاهات، وتتداخل فيما بينها، لكن ولوج تلك التفاصيل من مهامّ المختصّين في العلوم السياسية وما ارتبط بها من علوم أخرى ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بالظواهر السياسية المختلفة.
أمّا الحدّ الأدنى من الثقافة السياسية فلابدّ منه لكلّ فرد يريد أن يكوّن رأيا حول قضية ما، ولا يجوز بحال اتّخاذ موقف أو إبداء رأي دون الإلمام بالشيء اليسير من مفاهيم السياسة، ولا أقول الحديث في السياسة بلْه بممارستها، إذ يستدعي ذلك كمّا معرفيا معتبرا من غير المقبول أن يفتقده الشخص الذي يرغب بتبوّأ مكان في الفعل السياسي في أبسط مستوياته، لأنّ قضايا السياسة شائكة تتطلّب ملامستها توفّر المعرفة اللازمة، هذه المعرفة يطلق عليها في أدبيات علم السياسة اسم الثقافة السياسية وهي المفهوم الأكثر شيوعا، أو الوعي السياسي، والثقافة السياسية تنتج عن التنشئة والتثقيف السياسيين، وهذان الأخيران ليسا في متناول كافة أفراد المجتمع حتى في الدول التي ترسّخت فيها قيم الديمقراطية، واكتسبت تجربة حكم طويلة، فضلا عن المجتمعات النامية التي لم يكد يمرّ على خروجها من ربقة الاحتلال أكثر من نصف قرن، هذا على فرض أنّها تحرّرت منه بشكل كامل، كما أنّ وجود الثقافة السياسية متعلّق بشكل أساسي بوجود منظومة حزبية قويّة تأخذ على عاتقها مسؤولية تكوين الأفراد لاسيما في ظلّ التجاهل الذي تبديه السلطة السياسية تجاه فئات واسعة من أبناء الشعب الذين لا ترى لهم من حقّ في نيل قسط وافر من المعرفة السياسية، بما أنّ الأبوية والوصاية عليهم قضية محسومة لدى القائمين على شؤون الحكم.
والاهتمام بالسياسة مستويات، أوّلها التوصيف؛ ويعني القدرة على رؤية أثر السياسة سطحيا وتقديم قراءة بسيطة لملامحه، من قبيل تعداد المشاكل التي يعاني منها المواطن مثل مشكلات النقل، والصحة، وندرة المواد الغذائية وغيرها، ومحاولة ربطها بالقرارات والأوامر الصادرة عن السلطة بهدف الوصول إلى وصف يفي بفهم المشكلة ونتائجها فهما أوليا، ولا يستطيع الواصف أن يلمس الأسباب الفعلية لها، ويعجز عن إيجاد روابط منطقية بينها وبين العلل المتفرّعة عنها، وهذا المستوى يمثّله عامة النّاس، ويظنّون أنّهم بذلك يمارسون السياسة، وهذه مغالطة ينبغي التحرّز من الوقوع فيها لأنّها لا تندرج ضمن الفعل السياسي وإنّما هي ما أطلق عليه مالك بن نبي مصطلح "البوليتيك" بالمعنى المتداول شعبياً، أي الكلام في قضايا السياسة، أمّا هذه الأخيرة فهي "ما ينجز لا ما يقال" كما يؤكّد ابن نبي، وإن كان من الضروري الإشارة إلى ملحوظة معينة في هذا الصدد؛ ينبغي التنبيه إلى أنّ الاتفاق على مفهوم واحد للسّياسة لا يزال محلّ خلاف عند المختصين وليس عند العامة فقط، بين من يختصرها في إدارة الدولة وتحديد أشكال نشاطها، ومن يستعملها كمرادف للسلطة والحكم، ومن يربطها بمفاهيم الصراع والسيطرة، وهناك من يمنحها مفهوم التخصيص السلطوي للقيم ويربطها بمجمل الأنشطة التي تتجلّى فيها سلطة الدولة، أفعالا وردود أفعال.
والسياسة عند المفكرين المعاصرين مرتبطة بكلّ ما يصدر عن السلطة من خطط وقرارات تندرج ضمن إدارة شؤون الدولة والمجتمع، عكس ما يروّجه المتحدثون في السياسة في مجتمعنا، الذين يلجؤون إلى الاختزالات المخلّة، والتبسيط المعيب، وإلحاقها بصفات مستهجنة أخلاقيا مثل النفاق والخداع والكذب والوعود الزائفة، دون إغفال عملية التنويم التي تمارسها فئة دأبت على بيع الوهم ومخاطبة العواطف والتحايل على معطيات الواقع، فجعلت من السياسة موضوعا هيّنا يطؤه من لا رأي له حتى في شأن بيته، ومنهم من اعتاد على تنميط خطاب يلخّص الفعل السياسي في الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإصلاح، وذهبوا بعيدا في ذلك حتّى أنّ منهم من راح يبحث في النيّات والمقاصد معتقدا أنّه بذلك يمارس السياسة، وينتظر بكلّ سذاجة أن تستجيب السلطة لمواعظه المسجوعة ونصائحه المشفوعة بالنصوص الحاثّة على حسن السلوك والالتزام الأخلاقي وحبّ الوطن وما سواها من المشاعر والغراميات التي لا توجد في قاموس السياسي العاقل.
كيف و"السياسة مواقف وموازين قوى، لا مجرد مواعظ ونيات حسان، فما يعصم من الفساد ليس التزام الحاكم الفرد بالقيم السياسية، بل إلزامه من خلال المدافعة الاجتماعية، فلا يحصل العدل وتتحقق الحرية بوعظ الظالم أن يترك ظلمه، بل بإقناع المظلوم أن يتنزع حقه" (محمد مختار الشنقيطي، الأزمة الدستورية في الحضارة الدستورية، ص 191) ولا يجد المرء من مبرر لوسم الخطاب الوعظي بالسياسة، إلاّ مبرّر الجهل بموضوعها والخلط بين مفهومي الإلزام القانوني والالتزام الأخلاقي، والغرق في المثاليات والطوباويات، والبعد عن الواقع، والجهل بطباع النفس البشرية، وتعقيدات العلاقات الصراعية والتحالفات داخل دواليب السلطة وبين القائمين عليها.
أما المستوى الثاني، فهو التحليل والتفسير، وهذه وظيفة المختصّين في علم السياسة الذين يحوزون على المعرفة الكافية والأدوات المنهجية التي تتيح لهم الملاحظة والاستقراء والاستنباط وتفسير الظواهر وإرجاعها إلى أسبابها وربطها بقرائنها، ثم استشراف مآلاتها، والمختصون على تباين في هذا المجال، منهم المقتدر المؤهّل، ومنهم المبتدئ المتعلّم، ومنهم من يخبط خبط عشواء وكثير ماهم، وهذا الصنف لا تخطئه عين المتابع الحصيف والقارئ اللّبيب، ولولا أن يوصف أحدنا بالجرأة لكتب على ظهر كل واحد من هؤلاء "كم من بغل بردعته الشهادات"، فغدا يهرف بما لا يعرف، يبرّر للسلطة عن جهل تارة، ويذمّها قاصدا المدح تارة أخرى، ثم يغدو مجاملا لطرف أو آخر رغبا أو رهبا، منهم الطامع في مغنم رخيص، ومنهم الخائف أن يحيق به غضب عليّة القوم.
والأصناف الثلاثة فيهم المخلص والملبّس، والوصولي والانتهازي وصاحب المبدأ، لكن الثابت في الأمر أنّ الفئة المقتدرة المخلصة قليلة جدّا، ودليل ذلك غياب أثرها في الواقع المعاش، ولو وُجد منهم عدد كبير لكان الحال غير الحال، ولارتفع مستوى الوعي الشعبي من جهة، ولبدت سوءات السلطة ومدّعيي السياسة من جهة أخرى.
أما المستوى الثالث فهو مستوى الفعل السياسي الواعي، أي التأثير المباشر في الواقع السياسي في بعد واحد من أبعاده على الأقل، وهذا المستوى يحتاج توفّر شرطي الكفاءة والفعالية معا، أي تجاوز التفسير والتحليل إلى العمل على بناء المشاريع السياسية أو المشاركة فيها والمساهمة في توفير الأرضية الاجتماعية لها، وهنا يتم الانتقال من النظرية إلى الممارسة، ومن التصوّر الذهني إلى التنفيذ العملي، فيكون الانطلاق من رؤية سياسية شاملة إلى إبداع الهيكل التنظيمي الذي يحتويها، وتكوين الأفراد وتثقيفهم وإعدادهم لتحمّل المسؤولية، ووضع أسس الفلسفة السياسية ابتداء، واختبارها على محكّ الواقع انتهاء، "فالسياسة التي لاتبدأ بتكوين الإنسان وتنشيط ذكائه ووعيه، ليست إلا نطحة ضد شيء خفي" (مالك بن نبي، العفن، ص63)، وقد تهشّمت جماجمنا من كثرة النطحات دون أن نتعظ.
هذه المهمّة السياسية هي بالذات ما نحتاج في الجزائر، إذ يسمح تتبّع تاريخنا السياسي باكتشاف الهوة السحيقة التي وقع فيها المتحدثون في السياسة من متحزّبين وشخصيات ادعت لنفسها صفة القيادة، وروّجت لدى الجماهير فكرة وجود مشاريع سياسية قائمة بذاتها، لكن عند البحث والتمحيص لا تكاد تجد ما يشبه في معناه لا المشروع ولا البرنامج؛ إذ يعتقد أولئك المتحدثون أنّ الشعارات التي صاغوها، والمواعظ والمزايدات التي لاكتها أفواههم ولا تزال تلوكها، يعتقدون أنّها تحمل مواصفات المشروع السياسي الذي سيحدث التغيير المنشود، وهي ليست في حقيقتها سوى قشور لا لبّ لها.
ويكفي أن نعلم أنّ نصف قرن من الاستقلال مرّ دون أن تنجب الجزائر مفكّرا وقائدا سياسيا واحدا قدّم تصوّرا كاملا للدولة والمجتمع كما يريدهما مع تبيين استراتيجيات التنفيذ ووسائله وآلياته ومداه الزمني، لا من خلال مؤلّف ولا من خلال برنامج سياسي ضمن حزب أو كمرشّح مستقلّ، كل الذي نراه عنتريات فارغة وشعارات وأحلام لا تنتمي إلى السياسة إلّا عن طريق الخطاب وربطة العنق والبدلة الكلاسيكية.
7 تعليقات
مواطن موهوب
١٩ سبتمبر ٢٠٢٤نور
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤Omar Benkouider
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٤أحمد سعيد
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٤صلاح الدين
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٤رغيوة جمال الدين
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٤عبدالعلي
٢٩ أكتوبر ٢٠٢٤