السياحة في الجزائر: نستطيع ويمنعنا النيف!
لا يستطيع المرء أن يتحدّث عن موضوع فكري أو سياسي في الجزائر في السنوات الأخيرة دون أن يضطر إلى توضيح الواضحات، وإعادة التذكير بالبديهيات، ووضع ملحوظات تحت أخرى لتفسير كل كلمة عسى أن يجد من يفهم مقصده من السامعين والقرّاء لأن كل المفاهيم ضربت في الخلاّط وصار من الصعب فصلها عن بعضها نتيجة لانتشار الخطاب الشعبوي على كل المستويات الشعبية والرسمية وحتى في الحقل الأكاديمي، وقد تولّت المؤسسات الرسمية كبر هذا النوع الرديء من الخطاب.

جسر سيدي مسيد (قسنطينة)
قبل أيّام فتح رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أمام المتعاملين الاقتصاديين موضوع تنمية قطاع السياحة فقال كلاما أستسمح سيادة الرئيس في التعليق على ما أظن أنّي فهمت منه، وليعذرني السيد تبون لأنّي من دون مبالغة لا أفهم كثيرا مما يقول إمّا لخطأ وتقصير منّي أو لأنّ الرئيس يستعمل مفردات يصعب على أمثالي فهم مراميها، أو لأنّ "عين السخط تبدي المساويا" وأنا ساخط على وضع السياحة وغيرها من القطاعات في بلادنا. في خطابه، ربط الرئيس بين السياحة بصفتها قطاعا اقتصاديا يحتاج إلى تنمية وبين العمود الفقري في الجسم البشري، وهو تشبيه يفيد بأنّ على من يريد إنجاح السياحة في بلاده أن ينحني؛ وحسبما فهمت من تشبيه الرئيس أنّ الانحناء يحتاج مرونة ولا يستطيع صاحب العمود الفقري الصلب أن يفعل وإلاّ انكسرت فقراته، لقد فهمت -على قلّة باعي في علم التشريح- ما أراد السيد تبون قوله، لكنّه حين أضاف أنّ من يريد الكرامة و"النيف" عليه ألا يفكّر في فتح أبوابه أمام السيّاح أفقدني القدرة على استيعاب الرسالة التي أراد إيصالها تماما. فما علاقة الكرامة والأنفة بالسياحة؟
في كتاب بعنوان "مبادئ وتطبيقات السياحة" يقدم الكاتب الهندي رودريش باتل تعريفا لطيفا للسياحة يقول فيه: "السياحة فريدة من نوعها، فهي تشمل صناعةً بلا دخان، وتعليمًا بلا فصول دراسية، وتكاملًا دوليا بلا تشريعات، ودبلوماسيةً بلا رسميات. والسياحة بصفتها شكلا من أشكال التعليم، جزءٌ من الوجود المتحضر"، ثم يناقش سؤال: هل السياحة نشاط أم صناعة؟ غير أنّه طيلة فصول الكتاب لم يتطرّق إلى مسألتي الكرامة والأنفة اللتان ذكرهما الرئيس تبون في خطابه.
وذكر الكاتب أنّ السيّاح أربعة؛ وهم الأشخاص الذين يسافرون للترفيه أو بغرض العلاج، والأشخاص الذين يسافرون لحضور اجتماعات رسمية أو بصفة تمثيلية من أي نوع سواء كانت علمية أو إدارية أو دبلوماسية أو دينية أو رياضية، والصنف الثالث هم الأشخاص الذين يسافرون لأغراض العمل، أما الأشخاص الذين يصلون في سياق رحلة بحرية، حتى لو بقوا لمدة تقل عن 24 ساعة فهم كذلك في عداد السيّاح، ولم يذكر من بينهم –كما ترى- أي شخص له علاقة بأمراض العمود الفقري لا بالنسبة للسائح ولا من يقدم له الخدمة في بلد الاستقبال.
أما فيما يخصّ أنواع السياحة فقد عدد الكاتب 15 نوعا؛ من السياحة الجبلية إلى السياحة الثقافية مرورا بالسياحة العلاجية وليس انتهاء بالسياحة العلمية، شارحا أهمّية كل نوع، مفصّلا في خصوصياته، ولم يذكر من بين تلك الأنواع السياحة الجنسية التي يبدو أنّ جزء من الجماهير الجزائرية فهم أنّ الرئيس يقصدها، فالسياحة عند بعض الناس رديفة للجنس والدعارة وشرب الخمر وتعاطي المخدّرات، ولعلّ أولئك المساكين يتوهّمون أنّ الخروج من مطار برشلونة أو اسطنبول يعني بالضرورة ولوج أبواب المواخير وعلب اللّيل. فانظر ما فعل الجهل والانغلاق بالعقول! ولأنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، يتصوّر هؤلاء أنّ الأنفة والكرامة تتعارضان مع الاستثمار في السياحة كأنّ كل الشعوب في الدول السياحية عديمة الكرامة ومجرّد من الأنفة التي يظنّ بعض الجزائريين أنّها حكر عليهم مثلها مثل قيم الحرّية والشجاعة والإقدام، وقد أجاد الكاتب والسياسي التونسي الصافي سعيد في روايته "الكيتش" التعبير عن هذه الأزمة الفكرية حين كتب على لسان أحد أبطال الرواية: "نحن المصريون والجزائريون سادة في هذا النوع من العجرفة؛ الجزائريون يعتقدون أن لا وطنية بعدهم، والمصريون يعتقدون أن لا عراقة تضاهي عراقتهم... حتى لكأنّ كل ما هو أصيل في هذا العالم ينتمي إلى مصر وكلّ من هو شجاع في هذا العالم جزائري"، لهذا السبب ينظر هذا النوع من الناس إلى السياحة نظرة ضيّقة تعتبر السائح تهديدا للكرامة وتحسب السياحة أداة لتدمير أخلاق المجتمع وقيمه وتبالغ في تخرّص المخاطر بما يجعل السامع يعتقد أنّ المجتمع الذي يعيش فيه ملائكي ومحصّن إذا لم يغز السياح الأجانب شوارعه ومقاهيه، في وقت يرى كل ذي بصر أنّ مجتمعنا لا تنقصه آفة من تلك الآفات، بل لعلّنا تفوقنا على غيرنا في بعضها ومن يطالع حال شبابنا ويرى ما فعلت بهم المهلوسات يدرك أنّنا لسنا في حاجة إلى الأجانب لينحرف مجتمعنا وتفسد أخلاقنا. أقول هذا لأبيّن انفكاك المحلّ بين موضوعي الفساد والسياحة دحضا للرأي الشاذ الذي يلقي في روع العامّة قناعة مفادها أن السياحة سبب للفساد الأخلاقي.
لا ريب في أنّ الرئيس يستطيع أن يتّخذ موقفًا لا يشجّع على السياحة انطلاقا من رؤية اقتصادية تفيد بأنّ الدولة في غنى عن تنمية هذا القطاع وأنّ لديها من الخيارات ما يغنيها عن السياحة لكن عليه في الوقت ذاته أن يلغي وزارة السياحة من تشكيلة الحكومة ويقنع شعبه بالبدائل ويقدّم من المبرّرات المعقولة ما يدحض الرأي المعارض، أمّا أن يربط السياحة بالأنفة ويوهمنا بأنّنا مجبرون على التخلّي عن كرامتنا حتى نصبح دولة سياحية فهذا غير مقبول ولا معقول؛ السياحة قطاع اقتصادي قائم بذاته له أدواته ومستلزماته وطرق تطويره، والسياسات العمومية في مجال السياحة أساسية للدول التي تستهدف تنويع اقتصادها واستدرار العملة الصعبة، ومن المعلوم أنّ الجزائر دولة تحتاج إلى هذا القطاع كثيرا باعتراف الرئيس ووزرائه أنفسهم.
ومن أجل أن نصبح بلدا سياحيًا لن تكفي صفات الضيافة وحسن الأخلاق التي تحدث عنها الرئيس تبون لأنّ المشاكل الهيكلية كبيرة، والدولة في حاجة إلى إعداد مشروع متكامل لتشجيع السياحة بعيدا عن شعارات الأنفة والكرامة ومشتقاتهما، فلا سياحة لبلد تطلب قنصلياته من الأجنبي حزمة ورق من أجل دراسة ملفّ التأشيرة ثمّ ترجعه من حيث أتى كأنّه تقدّم بطلب السكن في القصر الجمهوري لا الدخول إلى إقليم دولة أجنبية. كما يتطلب الأمر إعادة النظر في فرض التأشيرة نفسها على الدول المستهدفة بمشاريعنا السياحية حين توجد، حيث لا يمكن أن نروّج لجمال بلادنا ثم نمنع الناس من زيارتها ونجبرهم على مشاهدتها في الصور والوثائقيات.
في الحقيقة، لا توجد جهة تعرقل نموّ السياحة في الجزائر أكثر من السلطة التي تدّعي تشجيع هذا القطاع، بداية بدعايتها التي تربط بين السياحة والتفسخ الأخلاقي، مرورا ببيروقراطية الإدارة القنصلية وسوء خدمات النقل الجوي وإدارة المطارات والمعابر، وصولا إلى ضعف البنية التحتية المادية مثل اختلال شبكة المواصلات وقلّة الفنادق والمرافق، والبنية التحتية الرقمية خاصة في قطاع البنوك والمصارف التي تعيش عصر ما قبل الثورة الصناعية. فهل نتوقّع أن يزورنا سائح يفرض عليه صرف عملته في سوق "السكوار" بدلا عن البنوك ومكاتب الصرف؟ من هذا السائح المجنون الذي يضطر إلى حمل كيس من النقود والتجوّل به في الشوارع مقابل صرف ألف دولار أو يورو؟
من المؤكد أن الجزائر بلد غنيّ ومتنوّع طبيعيا، يمكن أن يكون وجهة رائدة للسياحة في كل الفصول؛ سياحة صحراوية وثقافية وجبلية وريفية ورياضية وسياحة مغامرات وسياحة علاجية، وكلها أنواع من السياحة لا يريد صانع القرار أن يتحدّث عنها حتى يظل عقل الفرد الجزائري حبيس الصورة النمطية المغلوطة التي تربط بين السياحة والفساد الأخلاقي، لكن كل تلك الأنواع لا يمكن الاستثمار فيها ما لم يغيّر أصحاب الحكم تصوّراتهم عن السياحة ويطوّروا استراتيجية عصرية لتنفيذها إذا كانوا فعلا يملكون الرغبة والإرادة لتنويع الاقتصاد ودعم القطاعات الخدمية وتحريرها من أيدي البيروقراطيين.
في هذا السياق، ينبغي أن أشير إلى أنّ الدولة ممثلة في قيادتها هي التي يقع على عاتقها اختيار نوعية السيّاح الذين يزورونها، فإن أرادت الاعتماد على السياحة العلاجية مثلا عليها أن تطور المستشفيات وتؤهّل الأطباء وترفع من جودة الخدمة الصحّية لتستقبل زبائن الطب العلاجي والطبّ التجميلي، وإذا اختارت السياحة العلمية تعصرن الجامعات وتفتح المخابر ومراكز الدراسات، وإذا كانت تبحث عن الاستثمار في السياحة الرياضية يجدر بها تجهيز البنية التحتية اللازمة وتنظيم التظاهرات والمنافسات المختلفة وفق ما يقتضيه الهدف المسطّر، وفي أصناف السياحة متّسع للإبداع.
إنّ النظر إلى السياحة بصفتها تهديدا للقيم والأخلاق لا يعدو في الحقيقة أن يكون تعمية على السبب الحقيقي الذي يجعل السلطة تعرقل تطوّر السياحة؛ إنّها الخشية من احتكاك الفرد الجزائري بغيره من الشعوب ما يجعله يقوم بالمقارنات تلقائيا بين وضعه المعيشي وأوضاعهم فيكتشف حجم الهوّة بين الشعارات والواقع، ويدرك أسباب التخلّف الذي يعيشه فيستيقظ من الأوهام التي تم تخديره بها لأن "السياحة تعليم بلا فصول دراسية" كما أسلف الكاتب الهندي، والجهل عماد الاستبداد كما قرّر الكواكبي، والمواطن الجزائري محكوم بالعزلة لأسباب مادية تمنعه من السفر إلى الخارج واكتشاف العالم، ولأسباب سياسية تجعله لا يرى الأجنبي إلا في التلفاز كما يشاهد الأجنبي المعالم السياحية للجزائر في الصور. وكيف يسافر مواطن من دولة يساوي فيها الحد الأدنى للأجور 84 دولاراً؟ وكيف يأتي سائح أجنبي إلى دولة تطلب منه ملء 20 ورقة لينال التأشيرة!
أمّا القول بأنّ الشعب ليس جاهزا للتعامل مع السياح الأجانب فلا يعدو أن يكون حجّة متهافتة لأنّ المجتمعات تتطوّر وتتكيّف وفقا للمتغيّرات، والتجربة خير معلّم للأفراد والجماعات، ولا يحسبنّ أحد أنّ الإسبان أو اليونانيين أو المصريين خلقوا لتكون دولهم وجهات سياحية. وعلينا أن ندرك أنّ قيمهم لم يغيّرها توافد الأجانب، والسيّاح الأوروبيون لم ينصّروا مصر، ولا المسلمون أسلموا الإسبان، فاعتبروا!
23 تعليقات
لخضر شتوح
١٦ أبريل ٢٠٢٥Mohamed Hadj
١٦ أبريل ٢٠٢٥Raz van
١٦ أبريل ٢٠٢٥زكريا
١٦ أبريل ٢٠٢٥مرابطي بلقيس
١٦ أبريل ٢٠٢٥Anfal
١٦ أبريل ٢٠٢٥مختار دباشي
١٦ أبريل ٢٠٢٥عبدالكريم عبدالله
١٦ أبريل ٢٠٢٥محمد
١٦ أبريل ٢٠٢٥Hala Bouzeghaia
١٦ أبريل ٢٠٢٥خليل رحماني
١٦ أبريل ٢٠٢٥فارس
١٦ أبريل ٢٠٢٥عادل بوغرارة
١٦ أبريل ٢٠٢٥كمال الدين وادو
١٦ أبريل ٢٠٢٥عاشور رشدي
١٦ أبريل ٢٠٢٥Dridi Wahid
١٦ أبريل ٢٠٢٥فطومة الوردة
١٦ أبريل ٢٠٢٥حسام الدين
١٧ أبريل ٢٠٢٥شام
١٧ أبريل ٢٠٢٥يحي الدين
١٧ أبريل ٢٠٢٥Fathma
١٧ أبريل ٢٠٢٥Nora siranou
١٧ أبريل ٢٠٢٥مراد منصوري
١٩ أبريل ٢٠٢٥