الطريق إلى حلب... لماذا الآن؟
لماذا في هذا الوقت؟ ومن هؤلاء الذين قرّروا فجأة الهجوم على مواقع النظام السوري والميليشيات المساندة له؟ في مثل هذه الأحداث صار مألوفا طرح هذه الأسئلة، وللإجابة عليها ينبغي دائما العودة إلى الخلف، وإعادة تصميم خارطة الأحداث في الماضي لتجسير العلاقة بين اللحظة الراهنة ونقطة البداية وإلا ستكون القراءة عرجاء شأن معظم القراءات المتعجّلة للأحداث في زمن سطوة الأحداث على تحليل الأحداث

القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية
لا أعني بالأحداث حدثاء الأسنان فالمرء بأصغريه قلبه ولسانه، والله يؤتي الحكمة من يشاء؛ هناك من "آتيناه الحكم صبيّا" وهناك من "حتّى بلغ أشدَه وبلغ أربعين سنة"، وإنّما أعني فئة من الناس تزن أكبر الأحداث بميزان عواطفها، تفصل منتهى القضية عن شأوها فتضيع بين الماجريات يوجّهها الحماس في البداية ثم يسيطر عليها اليأس في النهايات فتنتكس، وكم رأينا من المنتكسين من هذا الجيل منذ صرخت جماهير العرب في الشوارع تريد الفكاك من الأغلال.
في السابع والعشرين من نوفمبر أعلنت فصائل المعارضة السورية عملية عسكرية مباغتة ضد قوات بشار الأسد والميليشيات التابعة له سمّتها ردع العدوان، وللمعركة من اسمها نصيب إذ جاءت بعد أيام قليلة من ضربة جوّية استهدفت مدنيين في ريف إدلب راح ضحيّتها أطفال لا ذنب لهم إلا أنّهم ولدوا في بلد لم يعرف جيلان من أبنائه مرادفا لوطنهم غير اسم عائلة تنتسب إلى فصيلة السّباع حين تقاتل شعبها، ثم ما تفتأ تنكمش حتى تصبح من القوارض حين تحلّق طائرات اليهود فوق الرؤوس تضرب مطاراتها العسكرية والمدنية بكرة وعشيّا، كانت تلك الحادثة نقطة في بحر سلسلة من عدوان مستمر بشكل يكاد يكون يوميا. الآن، دع عنك الهزل والتشبيهات وتعال معي إلى الجدّ مرة أخرى.
لماذا الآن؟ الحرب خدعة، وما تكون كذلك إذا لم يختر صاحب القرار فيها توقيت البدء بدقّة، كذلك فعل المجاهدون في غزة يوم السابع من أكتوبر قبل عام ونيّف، وكذلك فعل مجاهدو الجزائر يوم الفاتح من نوفمبر قبل 70 سنة، والوقت في الحرب الحديثة يقاس بالثواني لا بالأيام ولا حتى بالساعات، فكيف اختارت المعارضة ساعة الصّفر لبدء عمليتها العسكرية؟
إقليمياً، انتظرت المعارضة إلى اللحظة التي أُعلن فيها عن اتفاق وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني وحزب الله لتعلن عن بدء المعركة تفادياَ لتأويلات المؤمنين بمحور المقاومة كي لا يُتّهموا بكسر جبهة إسناد غزة في وقت حساس، فلو نفّذوها قبل يوم من الاتفاق لقيل أنّهم تعاونوا مع اليهود على هزيمة المقاومة في لبنان، ولو كانت قبل أشهر لقيل أنّهم يفكّون الخناق عن الكيان الصهيوني بقتال من يقاتله وقطع الإمداد عنه.
في هذه المرحلة ، يبدو حزب الله ذئبا جريحا بالكاد يستطيع التقاط أنفاسه بعد فقدان الصفّ الأول من قيادته وإخراج المئات من جنوده عن الخدمة في حادثة البيجرز وما قبلها وبعدها، فالحزب الذي كان في طليعة أنصار النظام لم يعد قادرا على إنقاذ نفسه، وبذلك واتت الفرصة للانقضاض على ما تبقّى من ميليشياته في جبهة حلب، ستقول لماذا الحزب؟ ويقولون هم: يا لثارات الحولة والغوطة! تراك نسيت؟ المكلومون لا ينسون، والجراح ما تزال طازجة، والقلوب كلما أبصرت الرّايات الصفر جاشت بصدورها الأحزان، إن كنت لا تشعر فتلك قضيّتك، لكنّ الضحايا لا يملكون ترف الغفران.
من جهة أخرى، جاءت العملية بالتّزامن مع انحسار الدّور الإيراني في المنطقة بعد الضربات التي تلقّاها فيلق القدس التابع للحرس الثوري في كلّ الأماكن، في دمشق وجنوب لبنان، فضلا عن الضربة الصهيونية الأخيرة في العمق الإيراني التي بقيت دون ردّ بعد مرور أكثر من شهر على وصول الطيران المعادي إلى سماء طهران وقصفها. لقد أدركت الفصائل السورية أنّ إيران اليوم غير إيران الأمس، والحرس الثوري بعد قاسم سليماني غير ذاك الذي كان يتجوّل في عاصمة الأمويين ينتقم من يزيد بتعبير خامنائي، أي ذلك المرشد الذي استغنى عن القنابل التي كان يفجّرها على رؤوس المدنيين في بلاد الشام واستبدلها بالقنابل الصّوتية في مواقع التواصل الاجتماعي مثله مثل أيّ مدوّن بسيط في بقعة قصيّة من هذه الأرض تاركاً معارك الحاضر لمصلحة معارك الماضي نافخا روح الطائفية من جديد.
لذلك كان التقهقر الإيراني مدخلا مهمّا في اتخاذ القرار بشنّ عملية ردع العدوان، يضاف إلى ضعف نظام بشار الأسد بعد لجوء طهران إلى سياسة خفض التوتّر مع الكيان الصهيوني ومحاولة الرئيس الجديد مدّ جسور التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية وانكفاء النظام الإيراني على نفسه تماهيا مع براغماتيته المعهودة تحت شعار الحفاظ على قواعد الاشتباك، فالأولوية بالنسبة لطهران حماية مشروعها النّووي بدرجة أولى، ثم الحفاظ على حلفائها في المنطقة، وفي نفس الوقت تفادي الصّدام مع البيت الأبيض بعد نجاح دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة، وهو ما جعل المسافة تتباعد بين النظام السوري والإيراني تحت ضغط الأحداث وتفاوت المصالح بين نظام يدري ما يريد ويتقن ترتيب أولوياته، ونظام لا همّ له غير تأمين البقاء بالاستناد على غيره.
أما تركيا، فقد جاءت العملية لتخرجها من دائرة الترقّب وتضعها أمام ضرورة المواجهة الميدانية من جديد بعد فشل مساعي التقارب بين أردوغان والأسد لاسيما بعد رفض الأخير وساطة بوتين لعقد لقاء بين الغريمين الصائفة الماضية، والعملية عكس ما يعتقد المؤمنون بتبعية فصائل المعارضة لتركيا لا يوجد ما يثبت علمها بها، ولو علمت ما ضرّها شيء، فالأتراك لا يهمّهم في الصراع سوى ثلاث مسائل؛ تأمين حدودهم وعودة اللاجئين وتضييق الخناق على الميليشيات الكردية، وما سوى ذلك تفاصيل يراها صانع القرار التركي بعين غير التي يراها بها أصحاب القضية، لكنّ هذا لا ينفي تقاطع مصلحة تركيا والمعارضة لأنّ مزيدا من الأراضي المحرّرة تعني من وجهة نظر أنقرة المزيد من اللاجئين العائدين إلى بلادهم، وتحرير حلب يعني تفريغ غازي عنتاب ومدن الجنوب التركي من السوريين، وضرب قوات سوريا الديمقراطية في تل رفعت لا يختلف عن ضرب حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، ذاك هو المنطق الأمني والسياسي في مخيال صانع القرار التركي، وما سوى ذلك أوهام يصدّقها الذين يؤمنون بأن أردوغان خليفة المسلمين مقابل خرافات يصدّقها الذين يحسبون كلّ المعارضين أتباعا لأردوغان، إنّه تقاطع المصالح، وهل السياسة سوى الحفاظ على مصلحتك في حرب المصالح!
على الصّعيد الدولي، تتحرّك المعارضة السورية في واقع متغيّر يطبعه تيهان الرّوس في حرب أوكرانيا وعجزهم عن حسم المعركة هناك منذ ما يقارب الثلاث سنوات، ولعلّها أول مرة تكون فيها موسكو بهذا الضعف منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي، فالروس الغارقون في وحل أوكرانيا لم يعد لحضورهم العسكري نفس القوة السابقة، ولم يبق لهم من الذخيرة والطيران الحربي ما يكفي لحماية الأسد على الوجه المعتاد، وإن كانت طرطوس مهمة فإن كورسك أهمّ في أعين بوتين، وذاك ما فهمته إدارة العمليات العسكرية في إدلب، أي تلك القيادة التي استلهمت من غرفة العمليات المشتركة في غزة الاسم واستراتيجيات العمل، مثلما استوحت منها طرائق القتال والإعداد. هل يعني ذلك أن روسيا لن تتدخل؟ كلا، ستفعل لكن ليس كما كان في السابق، إنّه زمن التراجع التكتيكي والحفاظ على ما أمكن من مكتسبات، ستنتقم من المدنيين ثمّ لن يكون أسوأ ممّا كان.
وفي الوقت الذي تنتظر فيه أمريكا تنصيب الرئيس ترمب وصياغة سياسة تتماشى مع توجّهاته تجاه سوريا، أتت العملية لصناعة واقع جديد لا يمكن للإدارة الذاهبة منعه لانشغالها بحرب أوكرانيا ودعم الكيان الصهيوني في حربه على غزة، وفي المقابل، ستكون الإدارة الجديدة مجبرة على التعامل معه في المستقبل.
بالإضافة إلى كل ما سبق، يبقى أنّ العملية العسكرية تجري في منطقة خفض التصعيد التي اتّفقت عليها روسيا وتركيا وإيران سنة 2019، ما يعني أن التدخّل الروسي سيكون محدوداً لتفادي الصدام مع تركيا مقابل بقاء الأخيرة على الحياد في الموضوع الأوكراني، وبذلك تتقاطع مصالح مختلف الأطراف الدولية والإقليمية بما يتيح المجال للمعارضة بتوسيع رقعة السيطرة وتحرير مزيد من المناطق في عملية بدأت محدودة ولا يتوقّع أن تتوسّع في الوقت الحالي. فهل دريت لماذا الآن وفي هذا الوقت؟
هذه محاولة مجملة للإجابة، وفي كل نقطة ممّا سلف تفاصيل ليس المجال متاحا لفحصها في هذه الفقرات، ولعلّ فيما قرأت فائدة.
16 تعليقات
إبراهيم بوالزرد
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤مراد منصوري
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤أحمد ابراهيم
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤أبو حفصة
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤Abdelouahab Djamel Eddine
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤سمير
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤سمير
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤رضوان بوشيخي
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤بلخيري أحمد بلال
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤سميرة لخضر خزار
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤أبو أنس زديرة
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤Rabeh
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤سريدي آمال
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤حمو
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤مختار دباشي
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤عبد الغفور
٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤