عملية ردع العدوان: الفواعل والعلاقات (2)
منذ فجر التاريخ، ترافق الثورات والانتفاضات وحركات التغيير التي تحدث في العالم خطابات متباينة، تضخّم الفعل أو تقزّمه، ترافع عن طهرانيته أو تدنّسه، تعلّق على صدور قادة حركات التغيير نياشين البطولة وتلقي عليهم هالة التشريف أو تخوّنهم وتتّهمم في انتماءاتهم، ثنائيات لابدّ منها في كلّ الأحوال، لم يسلم منها قائد واحد منذ عرفت البشرية نفسها.

تدريبات الجيش الوطني السوري تحت إشراف تركيا
إنّ حركات المعارضة في كل الدّول تتأرجح بين تهمتي التّحريك من الأجنبي والسعي الذاتي للتّحرير، بين حكم قطعي ينصّ على العمالة المطلقة للأجنبي وآخر يؤكّد على استقلاليتها التّامة، لكن السّياسة كما يعرفها أهل الاختصاص والميدان أعقد من أن تكون بذلك الوضوح، فالظاهرة السياسية بطبيعتها معقّدة، ومتشابكة، ومتغيّرة، تتداخل فيها عوامل نفسية وسلوكية وعقدية وإيديولوجية تتعلّق بصنّاع القرار، وأخرى سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتاريخية مرتبطة بالبيئة الواسعة للحركة في الداخل والخارج، ومن دون الإحاطة بجميع الجوانب لا يمكن للمختصّ الذي يملك العدّة المنهجية فهم الظاهرة السياسية بلْه بالمتابع العادي الذي تتلخّص معلوماته في مجموعة من الشذرات التي يسمعها ويقرؤها هنا وهناك.
والمعارضة السورية ليست استثناء في هذا الخصوص، بل أنّ وجود سوريا في موقع استراتيجي مؤثّر جعلها مركزا للصراعات بين مختلف القوى الإقليمية والدولية، فما يحدث في سوريا يؤثّر على دول الجوار مباشرة من الناحية الأمنية بدرجة أولى، وقد ينسحب تأثيره السياسي على نطاق أوسع خاصة أنّ عدوى التغيير تنتقل سريعا بين دول "الرّبيع العربي"، وسوريا بالنسبة للنظم المعادية للثورات أكثر النماذج إثارة للخوف والتخويف؛ خوف تلك الأنظمة من نجاح المعارضة المسلّحة ومن ثمّة تصبح مثالا يحتذى في دول كمصر والأردن والسعودية بشكل خاص، وتخويف للشعوب من المصير السّوري في حال استمرار الوضع على ما هو عليه. لهذه الأسباب نلاحظ أنّ موضوع الاحتراب الداخلي يأخذ حيّزا واسعا عند الحديث عن الواقع السّوري، والاتّهامات بالعمالة والتوظيف والتبعية للأطراف الأجنبية لصيقة بالخطاب الرسمي وجزء من الجماهير العربية.
لفحص علاقات الفصائل السورية التي تقود معركة ردع العدوان مع القوى الخارجية يجب أوّلا أن نضع في الميزان الأسئلة التالية: هل كل علاقة بين طرفين هي بالضرورة علاقة تابع ومتبوع؟ هل كلّ علاقة بين فصيل معارض وطرف أجنبي يمكن اعتبارها توظيفاً وعمالة؟ هل يمكن أن يتحوّل التعاون بين الطرفين إلى توظيف؟ وهل يمكن أن يتمرّد الطرف الذي تمّ توظيفه على موظّفه ويستقلّ عنه؟ وما أثر تقاطع المصالح بين مختلف الأطراف على العلاقات بينها؟
ولعلّ كل تلك الأسئلة تحتاج أوّلا إلى إجابة عن السؤال الأهم: في زمن العولمة والاعتماد المتبادل وحركة السياسة الدولية باتجاه تشكيل عالم متعدّد الأقطاب، هل يمكن لأيّ تنظيم معارض في دولة بأهمّية سوريا أن يشتغل بمعزل عن كلّ القوى ويمتنع عن إقامة علاقات معها؟
مكونات إدارة العمليات العسكرية: علاقات متشابكة
مثلما فصّلنا في الجزء الأول من المقال، تتكوّن إدارة العمليات العسكرية من أربع فصائل أساسية ذات انتماءات إيديولوجية متباينة وإن كانت في معظمها إسلامية التوجّه عدا جيش العزّة الذي يمكن إدراجه ضمن التيّار الوطني المحافظ باعتبار أغلب قيادته ضباطا وجنودا منشقّين عن جيش النّظام. في الوقت نفسه، نجد أنّ مسار تآلف وتخالف هيئة تحرير الشّام وأحرار الشام مثير للانتباه، فالعلاقة بين التنظيمين تميّزت طيلة السنوات التسع الماضية بالتقلّب، حيث تحالفا ضمن جيش الفتح سنة 2015 ثم اختلفا فتقاتلا عدة مرات، وظلّت العلاقات بينهما بين مدّ وجزر إلى أن استقرّت جزئيا ضمن غرفة عمليات الفتح المبين بداية من 2019، ثمّ تتذبذب من جديد مع الانقلابات والانقلابات المضادة داخل حركة أحرار الشام لتأخذ طريقها إلى الاستقرار نهائيا وتتوّج بالاتّفاق على القيادة المشتركة لإدارة العمليات العسكرية في خطوة تبيّن إلى حدّ كبير نضج القيادة الحالية ووصولها إلى قناعة مفادها ضرورة التّعاون والتوحّد في مواجهة الأسد وميليشياته. وكلا التنظيمين متّهمان حسب دعاية النظام وأنصاره بتبعيتهما لتركيا بشكل خاص، فإليك تتبّع مسار وعلاقات التنظيمات الأربع التي تقود عملية ردع العدوان:
هيئة تحرير الشام وسؤال الاستقلالية والتّبعية
في سوريا، يساوي الحديث عن هيئة تحرير الشام الحديث عن زعيمها ومؤسسها الذي ضمن لها القوّة والاستمرارية وحافظ على كيان التنظيم على الرغم من الصراعات التي خاضهاعلى مدار 13 سنة من النشاط. ويعتبر أحمد حسين الشرع، أو أبو محمّد الجولاني أبرز القادة الذين يمثّلون المعارضة السورية المسلحة إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، والمؤكّد أنّه أكثرهم قوة ونفوذا في الشمال السّوري بالنّظر من جهة إلى قدرته على تجميع الفصائل وتوحيدها رغم قتاله السابق لبعضها، ومن جهة ثانية بسبب مزجه بين العملين العسكري والسياسي معاً في إدارة شؤون محافظة إدلب التي يعتبر عملياً زعيمها الأوحد، فالنموذج الذي أسّسه يبدو مختلفاً عن باقي التنظيمات بسبب قربه من نموذج الدولة أكثر منه إلى نموذج التنظيم المسلّح المحض، فمنذ تأسيس هيئة تحرير الشام تمّ تشكيل حكومة تحت مسمى حكومة الإنقاذ تقوم بتسيير الشأن العام وتنظم وتدير المؤسسات المدنية الموجودة في المنطقة، ضمت الحكومة عددا من التكنوقراط الذين يتولّون تسيير الحياة المدنية، ويتقاسمون 11 حقيبة وزارية في خطوة تبدو بمثابة مرحلة تدريبية تسبق تعميم النموذج على كلّ المناطق التي تصلها يد الهيئة.
وقد كان ظهور الجولاني في حوار متلفز على قناة الجزيرة القطرية سنة 2015 مدخلاً لربطه بدولة قطر بين من يجزم بتبعيته لها، ومن يقول أنّ الرجل يلعب على كل التناقضات ويتماهى مع كلّ التحوّلات الداخلية والخارجية بهدف التمكين لتنظيمه، ويعتمد ناقدو الجولاني على التركيز على دور قطر في الوساطة بينه وبين الجهات التي قام الأخير باختطاف رعاياها وطلب مقابلا مقابل إطلاق سراحهم مثل الصحافي الأمريكي ثيو كيرتيس الذي خطفته جبهة النصرة سنة 2012 والراهبات المسيحيات اللواتي اختطفن سنة 2013 وجنود الأمم المتّحدة من دولة فيجي الذين تم اختطافهم سنة 2014، وكلّ هؤلاء تم إطلاق سراحهم بين 2014 و2015 بوساطة قطرية مقابل تعويضات مالية وإطلاق سراح مقاتلين تابعين للتنظيم كانوا في سجون الأسد.
في سنة 2021 نشرت صحيفة "ذو تايمز" البريطانية تقريرا اتّهمت فيه رجال أعمال وبنوك ومسؤولين قطريين بتمويل هيئة تحرير الشام وهو ما نفته وزارة الخارجية القطرية وقتها، ولم يتم تقديم أيّ مستندات تفيد بتلقّي الهيئة أموالاً من دولة قطر.
من جهة أخرى، يتّهم معارضو الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام بالتّبعية المطلقة لتركيا، وهي مزاعم لا يوجد في الواقع ما يؤيّدها بالنظر إلى التوتّر الذي طالما طبع العلاقة بين الهيئة والتنظيمات الموالية لتركيا مثل الجيش الوطني السوري الشريك الأوّل لتركيا في الشمال السوري، وهو فصيل لم ينخرط في عملية ردع العدوان مع بدايتها، وانتظر مرورثلاثة أيّام لإطلاق عملية باسم فجر الحرّية تستهدف تحرير تل رفعت وبعض المناطق في ريف حلب من سيطرة الميليشيات الكردية. ومن المعلوم أنّ تركيا تتعامل سياسيا مع الحكومة السورية المؤقتة التي تتّخذ من تركيا مقرّا لها، وتعتمد عسكرياً على فيالق الجيش الوطني التابع لهذه الحكومة في عملياتها ضدّ ميليشيا قسد وحلفائها منذ عمليتي درع الفرات في 2016 وغصن الزيتون في 2018، ثم عملية نبع السلام في 2019، وصولا إلى عملية فجر الحرّية التي أطلقتها بعد عملية ردع العدوان بثلاثة أيّام ضد التنظيمات الكردية.
عملياً، يشكّل الجيش الوطني السوري ذراع تركيا في سوريا، فهي التي أسّسته سنة 2017 بإدماج عشرات الفصائل التي درّبتها القوات الخاصة التركية مع فصائل أخرى من مختلف التوجهات، وهي التي تتولّى تسليحه وتمويله وتدفع رواتب جنوده، وحتّى تسميات بعض تشكيلاته ذات نفَس تركي مثل فرقة السلطان مراد ولواء السلطان سليمان شاه ولواء السلطان محمد الفاتح، مع ملاحظة أنّ هذا الجيش عبارة عن سديم متنافر من التنظيمات المتنافسة على التقارب مع الجانب التركي، ولا يجمع بينها أيّ رابط عقَدي رغم المساعي التركية لتوحيدها ضمن كيان واحد.
وقد مثّلت هيئة تحرير الشام حجر العثرة أمام تركيا عند تأسيس الجيش الوطني حيث كانت التنظيم الوحيد الذي وقف في وجه المحاولات التركية، ومنع فصائل منطقة إدلب من الانضواء تحت لواء الكيان العسكري الجديد، فكانت الهيئة بذلك هي القوة الوحيدة المنافسة للذراع العسكرية التركية. كما أنّ العلاقة بين بعض تشكيلات الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام علاقة عداء صريح وصل حدّ اقتتال الهيئة مع الفليق الثالث التابع للجيش الوطني في أكتوبر 2022، والغريب أنّ فرقتي الحمزة والسلطان سليمان شاه وقفتا إلى جانب الهيئة في تلك المرحلة ضدّ حلفائهم في الفيلق الثالث والفصائل الثلاث جزء من الجيش الوطني السوري. فأيّ جيش هذا الذي يتحالف جزء منه مع هيئة تحرير الشام ضد جزء منه؟
من الجانب السياسي، لا تحبّذ تركيا التعامل مع هيئة تحرير الشام، بل أنّ مواقف الطرفين تصل حدّ التناقض في ملفّات حساسة، فالهيئة تمثّل محور الرافضين لمسار أستانا الذي انطلق سنة 2017 بين تركيا وروسيا وإيران، بل أن تأسيس الهيئة جاء ردّا على انخراط جزء من المعارضة المسلحة في المسار وهو ما اعتبرته هيئة تحرير الشام "مؤامرة على الثورة السورية وإذلالاً لتضحيات المجاهدين". ومع محاولات التقارب بين نظامي أردوغان والأسد، نشر أبو محمد الجولاني خطابا مصوّرا بعنوان "لن نصالح" مطلع سنة 2023 عبّر فيه عن رفضه لأيّ تقارب مع الأسد معتبرا المساعي التركية انحرافا خطيرا يمسّ الثورة السورية، وهو موقف كرّرته الهيئة بعد تجدّد الحديث عن المصالحة بين الأسد وأردوغان الصيف الماضي فقامت بالهجوم على الجيش النظامي وقتلت 12 عنصرا سبتمبر الماضي في عملية نوعية هدفت إلى تقويض مشروع التّقارب، بل أنّ عملية ردع العدوان نفسها ضربة قاصمة لمحاولات التقارب بين أردوغان والأسد.
وبالمحصّلة لا تنظر تركيا بعين الرّضا إلى هيئة تحرير الشام لكنّها تحافظ على علاقة حذرة معها بوصفها أمراً واقعاً جرّبت التخلّص منه عن طريق المواجهة غير المباشرة من خلال فصائل الجيش الوطني وعجزت عن ذلك بالنظر إلى قوة التنظيم وتماسك قيادته وتجذّره، وفي الوقت ذاته تتقاطع المصلحة التركية مع مصلحة الهيئة في موضوع توسيع المناطق المحرّرة ليتخفّف الأتراك من اللاجئين، لهذا تريّثت أنقرة في إعلان موقفها من عملية ردع العدوان ولم تعارضها. ومن منظر ميزان المصالح تفضّل تركيا منطقة آمنة تديرها الهيئة يمكنها إعادة اللاجئين إليها على منطقة غير مستقرّة قد تسمح بنشاط مريح للكيانات الكردية وتمنع أنقرة من ترحيل اللاجئين تحت بند "العودة الطوعية". والأتراك براغماتيون بطبيعتهم لا تهمّهم هوية من يسيطر على المناطق المحاذية لحدودهم بقدر ما يهمّهم أن تكون هناك جهة قويّة تحقّق لهم المصالح الثلاث التي لا ينفكّون يعبّرون عنها: عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وتأمين الحدود وتنظيم المعابر، والتصدّي للميليشيات الكردية بما يمنع تنسيقها مع نظيرتها الموجودة في تركيا ويضعف أداءها العسكري.
ولا نبالغ إن قلنا أنّ تركيا مستعدّة للتفاهم مع الأسد نفسه في حال اتفاق القوى الدولية على تثبيته إذا ضمن تحقيق تلك المصالح، وقد بادر نظام أردوغان بالتّقارب معه لأجل ذلك، وصار من المؤكّد أن تركيا والأنظمة العربية جميعاً غير معنية بإسقاط الأسد، ولو كان الأتراك ودول غرفة "الموك" الذين كانوا يسمّون أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري" جادّون في مسعاهم لفعلوا منذ 10 سنوات، والحكم ينطبق على تركيا منفردة كذلك منذ تغيّر خطّ سياستها الخارجية بعد 2016، فلو كانت تريد إنفاق جهد لمحاربة الأسد لما تركت المعارضة المسلّحة مكشوفة للطيران الروسي دون دفاع جوّي، ومعلوم ضعف الفصائل في هذا الشأن، فانعدام الدفاعات الجوّية هو الذي حرمهم من التوسّع وليست قوّات الأسد، وبهذا المقياس نجد أنّ كلّ الدول بما فيها تركيا تتقيّد حرفياً بالمقاربة الأمريكية؛ أي "منح الحرب فرصة" كما نظّر لوتووك، بهدف إنهاك الجميع ضمن صراع الإرادات والمصالح في بلاد الشام، ولن يجاوز الأتراك الإرادة الأمريكية في الموضوع السوري لا اليوم ولا على المدى المنظور. إنّه مبدأ السيادة المحدودة الذي نحته بريجنيف السوفياتي قبل عقود يعود من جديد.
فماذا عن باقي فصائل إدارة العمليات العسكرية وعلاقاتها؟
5 تعليقات
عبدالقادر
٤ ديسمبر ٢٠٢٤مختار دباشي
٤ ديسمبر ٢٠٢٤محمد بشير
٤ ديسمبر ٢٠٢٤عبد الرحمان
٥ ديسمبر ٢٠٢٤أسامة
١٧ ديسمبر ٢٠٢٤