نشطاء وخاملون

الناشط السياسي موجه للجماهير
من أكثر المصطلحات التي شاعت في السنوات الأخيرة، مصطلح الناشط السياسي الذي صار يطلق بطريقة عشوائية على كلّ من أبدى موقفا سياسيا معيّنا بغض النظر عن صحة موقفه من عدمها، المهمّ أن يكون موجّها ضد السلطة القائمة وليس من الضروري أن يملك صاحب الموقف حججا قويّة للاستدلال على موقفه، ولا أن يكون ذا تاريخ في النضال السياسي، وليس مهما كذلك أن ينكص بعد فترة على عقبيه، إذ يحصل أن يصبح فرد ما ناشطا سياسيا دون سابق إنذار، لا لشيء سوى لأنّ الشرطة اعتقلته ساعة أو اثنتين، أو استضافه صحافي هاو في أحد البرامج شبه السياسية فوضع المخرج تحت اسمه صفة "ناشط سياسي"، ولن يسأل أحد أين نشط وفيم كان نشاطه وما طبيعته ومتى كان وكيف كان.قد يكون الناشط في العرف الذي ساد مؤخرا مدوّنا أمّيا لا يفرّق بين الفاعل والمفعول، أو من ضحايا التسرّب المدرسي أو مساجين الحقّ العام الذين فشلوا في الاندماج مع المجتمع فاتّخذوا من الإثارة طريقة للفت الانتباه وإشباع الرغبة الغريزية في الظهور، ومادامت لا توجد معايير ثابتة لتمييز النشطاء من الخاملين السياسيين فمن المتاح لكلّ المغامرين أن يصبحوا نشطاء سياسيين يدلون بآرائهم في مختلف القضايا الكبرى؛ وقد رأينا من هؤلاء من يتحدث في الصباح عن الرياضة في قناة فضائية، ويمسي في أخرى مثرثرا حول الاقتصاد، وبينهما يكون قد مرّ على الهواء في قناة ثالثة مبديا تحليلاته الباهرة في القانون والسياسة، وفي كل ظهور تلتصق عبارة "ناشط سياسي" باسمه، حتى في الرياضة يقدّم نفسه ناشطا سياسيا، ويا ليتهم وصفوه بالناشط الرياضي ليتلاءم الوصف مع الموصوف لغة على الأقل، مادامت البنية الجسدية للمتحدث أبعد ما تكون عن بنية الرياضيين.
يقول الروائي مرزاق بقطاش -رحمه الله- في ثلاثيته المشهورة: "المسؤولون السياسيون في الجزائر جهلة، يزعمون أن الحقّ إلى جانبهم لأنّ بعضا منهم أطلق رصاصة ضد الاستعمار الفرنسي في يوم من الأيام، أو جمع بعض القطع النقدية الصدئة لصالح جيش التحرير الوطني"، وما ينطبق على هؤلاء المسؤولين ينطبق على كثير ممن يصفون أنفسهم بالنشطاء السياسيين، فهم يزعمون أنّهم على حقّ لمجرّد إبداء موقف من السلطة، ويتناسون أنّه من المحتمل أن تكون مواقفهم وسياسات السلطة خاطئة جميعا، وفي الوقت ذاته يحسبون أنفسهم نشطاء سياسيين ويزايدون على غيرهم لأنّهم حظوا دون الآخرين بفرصة مواتية ليظهروا على شاشات التلفزيونات، أو لأنّ الواحد منهم تسعفه علاقاته بالصحافيين فيظفر بمداخلة هاتفية معهم، أو يصادف أن يصرخ في وجه مسؤول سابق ليمتطي منذ تلك اللحظة صهوة النشاط السياسي، وسرعان ما يتحوّل إلى شخصية مشهورة تدلي بدلوها -المثقوب عادة- في بئر السياسة العميق، ثم لا يعود بغير الحمأ.
هذا ما هو شائع، فلنأت الآن إلى مفهوم النشاط السياسي كما ورد في الأدبيات السياسية:
يندرج النشاط السياسي ضمن الحقل الدلالي للمشاركة السياسية، وهو ترجمة حرفية للمصطلح الفرنسي Activisme politique، الذي يعني الانخراط المباشر في الفعل السياسي في شقّه الحركي، وغالبا ما يطلق على الأفعال المخالفة للقانون والتي تميل إلى استعمال العنف المادّي ضد ممثّلي السلطة، ومن وجهة النظر الماركسية ، يتعلق النشاط السياسي بالتكتيك الثوري، حيث يركز فقط على الفعل في المدى القصير، وهو بذلك نقيض الاستراتيجية التي ترتكز على النظرية وتمتد على المدى الطويل.
ويعتبر مصطلح ناشط الذي يمثل ترجمة حرفية لكلمة Activiste أكثر شيوعا من سابقه، وهو مثل كثير من المفاهيم ذات العلاقة بالحركة يحيل إلى خطابات المدرسة الماركسية والفوضويين ومختلف حركات اليسار السياسي، حيث يستعمل للدلالة على الفرد الذي يقوم بأعمال تخريبية تستهدف السلطة ورموز الإقطاع والبرجوازية في أغلب الأحوال، وإن كان له معنى يقترب من معنى النضال في الأدبيات الغربية الحديثة.
وإن كان من غير الممكن ضبط المفهوم ضبطا دقيقا بالنظر إلى اختلاف المدارس الفكرية التي تنظر إلى المصطلح من جوانب متباينة، فإنّ الثابت أن النشاط السياسي هو أحد أبعاد المشاركة السياسية، وقد برز في إطار جماعي لوصف الفلامانكيين المنضوين تحت لواء الحركة الفلامانكية بداية من سنة 1916 وهي حركة تدافع عن الهوية واللغة الخاصة بها في بلجيكا (الفلامان عرقية جرمانية تستعمل اللغة الفلامنكية وهي نوع من لهجات الهولندية)، وفي فرنسا أطلق الوصف على النشاطات العنفية والإضرابات المخالفة للقانون التي كانت تتبنّاها النقابات العمالية والفوضويين الفرنسيين منذ 1890 تماشيا مع مقاربة الفعل أو الحركة المباشرة L'action directe، واستمر استعمال المفهوم للإشارة إلى أعمال اليمين المتطرف والفاشيين الفرنسيين، ثم توسع تدريجيا ليصبح وصفا لكل ما له علاقة بالحركات الوطنية المقاومة، ولكل المعارضين اليساريين والقوميين الذين خططوا أو حاولوا الانقلاب على الحكومات الفرنسية في الجمهوريتين الثالثة والرابعة، وظلّ الوصف مقترنا بشكل عام بنشاطات التنظيمات اليسارية.
كما أن هناك من يقسم النشاط السياسي إلى قسمين؛ سلمي وعنفي، ويستدلّ على الأول بالحركة الهندية التي قادها المهاتما غاندي ضد الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية في سنوات الأربعينات من القرن الماضي، ومثله نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، على ما في المثالين من تفاصيل وخبايا تشكّك في مدى نجاح الأنموذجين المذكورين، وهل كانت الأولى حركة تحررية فعلا أو مجرّد استراتيجية استباقية قرّرتها بريطانيا لإجهاض حرب تحررية محتملة ضدها بهدف التحول من نمط الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد؟
وهل كان مانديلا بعد خروجه من السجن زعيما يدافع عن السّود أو واجهة لطيفة تختبئ خلفها عنصرية برجوازية بيضاء؟
في منتصف التسعينات (1994)، بعد تفكك المعسكر الشرقي ظهر مؤلّف للكاتب الأمريكي جين شارب تحت عنوان "من الدكتاتورية إلى الديمقراطية: إطار تصوّري للتحرّر"، أصبح بمثابة الدليل العملي لروّاد النشاط السياسي السلمي، يبيّن فيه طرق وآليات واستراتيجيات التحول الديمقراطي ومكافحة الدكتاتورية بوسائل سلمية، ومع انطلاق موجة الانتقال الديمقراطي في أوروبا وما تلاها ممّا عرف بالثورات الملوّنة في دول أوروبا الشرقية، كان الكتاب أحد أهمّ المؤلفات التي يستند عليها النشطاء السياسيون في تلك الدول.
سبق ذلك كتاب آخر للمفكر الأمريكي صمويل هانتجتون صدر سنة 1991 بعنوان "الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين"، درس فيه ظاهرة التحول الجماعي إلى الديمقراطية والانتقال من النظم الشمولية إلى النظم الديمقراطية، وإن كان أكثر نظرية من سلفه، فإن هذه الدراسة تتناول في جزء منها متعلّقات النشاط السياسي بشقيه السلمي والعنفي في نهايات القرن العشرين، وتساهم في إدراك طبيعة النشاط السياسي وأدواته وأساليبه.
وإن كان الوقوف عند مفهوم موحّد لمعنى الناشط السياسي مستحيلا، إلاّ أنّ من الضروري التأكيد على أنّه بالرغم من مطاطيته ومرونته يبقى لصيقا بالأفراد الذين لهم تأثير واسع على الجماهير وقيادتها أثناء الاحتجاجات والحركات المطلبية إذا نظرنا إليها من الزاوية الليبرالية الغربية، أو الثورات والانتفاضات العنفية إذا ما نظرنا إليها من الزاوية الماركسية، وهكذا يبقى المفهوم مقيّدا ولا ينبغي توزيعه جزافا على كلّ فرد دون أن يحوز القدرة على التأثير والتخطيط وقيادة الجماهير وتوجيهها، وهذا ما لم يتم التقيد به منذ بداية أحداث الربيع العربي، ثم في حالة الحراك الشعبي في الجزائر والسودان سنة 2019 حسبما هو ملاحظ، حيث ظلّ الحراك الجزائري مثلا دون قادة وموجّهين طيلة فترة سطوعه.
وحتّى نجمل مفهوما مناسبا للناشط السياسي يليق بالحالة الجزائرية نجتهد لنضع له السمات التالية:
الناشط السياسي هو شخص ذو معرفة سياسية واسعة، يستند على رؤية سياسية أو أيديولوجية واضحة، يكون منخرطا في تنظيم سياسي أو مستقلاّ، يملك القدرة على قيادة الجماهير وتوجيهها، ينطلق من تاريخ نضالي معتبر، قادر على وضع الخطط اللازمة التي تحدّد وتضبط مختلف الأفعال السلمية والعنفية التي تصدر عن أنصاره، مسيطر على أنصاره وقادر على تحريكهم في أيّ وقت يشاء، ويحظى بمهارات تواصلية فعالة، ويحوز على معرفة دقيقة بدوره في إطار التنظيم أو الايديولوجية التي ينتمي إليها، ويملك ثباتا وصلابة في تنفيذ الرؤية التي يتبناها.
وفيما يخصّ أدوات النشاط السياسي فإنها تتجسّد في شقّها المادي في المظاهرات والاحتجاجات، والحركات المطلبية، والإضرابات، والعصيان المدني، والاعتصامات، وتخريب الممتلكات العمومية والمراكز الحكومية وكل ما يرمز إلى السلطة الحاكمة، ويمكن أن تطال حتى الأشخاص عن طريق المضايقات والضغوط، وأحيانا تبلغ درجة العنف الجسدي، مثلما تبيحه بعض الأدبيات الشيوعية.
ويتمثّل الشق المعنوي أو الإعلامي للنشاط السياسي في التحريض والبروباغندا والضغط النفسي على ممثلي السلطة، والعرائض التضامنية والشكاوى، وكل ما يمكن اعتباره ضغطا إعلاميا.
أما موضوع النشاط السياسي فقد يكون متعلقا بالتغيير الشامل للنظام السياسي القائم على غرار ما تطرحه الرؤية الشيوعية التي تعتبر النشاط السياسي الحركي تمهيدا للثورة الشاملة، أو يتعلق بمواضيع الحريات السياسية والدينية مثل المساواة والحق في الانتخاب والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير والصحافة… إلخ.
بهذا يمكن الآن تضييق دائرة النشطاء السياسيين وحصرهم في الفئة التي تنطبق عليها معايير النشاط السياسي، كي لا يصبح لدينا فائض من النشطاء والوطن لا يحتمل الفائض من أيّ شيء.
17 تعليقات
مختار دباشي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤أحمد
٢٠ سبتمبر ٢٠٢٤عبد الرحمان
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤الخليل
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤الخليل
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤سمير دحماني
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤عبدالعلي
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤Kh
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤زين الدين
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٤Hors
٨ أبريل ٢٠٢٥اميرة مصطفاوي
٨ أبريل ٢٠٢٥رابح
٨ أبريل ٢٠٢٥رابح
٨ أبريل ٢٠٢٥عمر بن قويدر
٨ أبريل ٢٠٢٥عاشور رشدي
٨ أبريل ٢٠٢٥mrabti belqis
٨ أبريل ٢٠٢٥عبد الرحمن بن عمار
٩ أبريل ٢٠٢٥