سفسطائيون على قارعة السياسة

السفسطة عند الإغريق
السياسة علم، وللعلم موضوع ومنهج، والعلم تراكمي له نظرياته وفروعه وله تاريخ وفلسفة وكثير من المتطلّبات التي لا تعنينا هنا، غير أنّ ما يهمّنا أن يتحدث أغلب الناس عن نماذج لدول "سبقتنا بالعلم" ومن الطبيعي أن يفعلوا ذلك، إذ أن المقارنة من الوظائف الذهنية التي يقوم بها العقل البشري، فنحن نقارن بين الأشياء لنميّز الحسن من القبيح، أو لنقلّد ما يتّفق مع رغباتنا وأهوائنا وخياراتنا؛ ما في ذلك من عيب، العيب أن يتناقض المرء مع نفسه فيدعو إلى اللّحاق بالدول التي سبقتنا بالعلم، ثم يتعامل مع السياسة مثل تعامل السفسطائيين الإغريق قديما.
ثرثارون في كلّ مكان، في الشوارع والساحات العمومية، في وسائل الإعلام ومواقع التواصل، أينما ولّيت وجهك تصفعك سفسطة من هنا وأخرى من هناك، وكلّ سفسطائي يملك تصوّرا أبترا ومعوجّا للسياسة؛ السياسة في نظره الكليل هي ما يظنّ ويتخيّل، وهي لدى محدّثه ظنّ آخر، وغالبا ما تكون نظرته الخاصة إلى السياسة نتيجة لعبارة سفسطائية ترسّخت في ذهنه، سمعها في قناة إعلامية توزّع الصفات الفخمة على من هبّ ودبّ؛ هذا خبير استراتيجي، وذاك محلّل سياسي، وتلك ناشطة سياسية، وصاحب البدلة باحث، وصاحب الطربوش شيخ، والمتفرنس مختصّ والذي على شماله مفكّر، وهلمّ وصفا، وهكذا هي الأمم حين يسوء وضعها وتفقد تفوّقها تختلق لنفسها العظمة اختلاقا، ويوزّع أفرادها الألقاب الفخمة على بعضهم طمعا في شيء من الأبّهة والشرف.
هناك من شكّل نظرته إلى السياسة بناء على قصاصة قرأها في جريدة، أو منشور مر أمام ناظريه في مواقع التواصل، أو عبارة التقطها من مذياع سيارة الأجرة، وأحسن السفسطائيين من قرأ كتابا حسب ما بين دفّتيه مبتدأ علم السياسة ومنتهاه، حتّى خال نفسه مفكّرا سياسيا يملك الحقّ في التنظير للسياسة الخارجية والانتقال الديمقراطي والتنمية المستدامة، ويحوز القدرة الحصرية على تحليل الصراعات الدولية في بحر قزوين، ويتنبّأ بمآلات الحرب في أوكرانيا، ويستشرف نهايات حرب أخرى ستندلع في شرق المتوسّط.
ويوجد نوع آخر من فصيلة الكائنات السفسطائية يستند إلى تجربته الشخصية الضئيلة، قد يكون عضوا في دكان حزبي أو جمعية أو نقابة خاض تجربة انتخابية بسيطة، صارت بالنسبة إليه معيارا للحكم على الأشياء، يشبه في ذلك الذي رأى طيلة حياته فأرا ثم أصيب بالعمى، فأصبح الفأر مقياسه الوحيد لمعرفة الأحجام والأوزان، كلّما سمع عن شيء سأل: هل هو أكبر من الفأر أم أصغر، أطول أم أقصر، أسرع أم أبطأ؟
كل من يختلط بأفراد المجتمع الجزائري سيلمس ذلك، ولا مفرّ له من الإنصات إلى أحدهم وهو يبدأ كلامه بعبارة: أنا جرّبت، أنا رأيت مرة كذا... وهكذا دواليك، كل تجربة شخصية هي في عرف هؤلاء نظرية علمية قابلة للتعميم، وكما يقول فلاديمير لينين: إنها لسذاجة أن يجعل المرء من جزعه الشخصي برهاناً نظرياً
، فمابالك بمن يريد أن يجعل من حادثة بسيطة قاعدة قانونية أو نظرية سياسية على غيره التسليم بها.
إنّها صورة هزلية مثيرة للبكاء الشديد من شدّة الضحك على واقعنا البئيس، وهي أشدّ بؤسا حين يجسّدها أفراد يقدّمون أنفسهم ويقدّمهم رفقاؤهم وتقدّمهم وسائل الإعلام في صورة السياسيين أصحاب المشاريع الذين في وسعهم الحلول مكان السلطة وإزاحة أصحابها.
يكثر هؤلاء السفسطائيون في الدول التي يعاني شعبها من غياب التنشئة السياسية، وهشاشة النظام الحزبي، وتدهور المنظومة التعليمية، وضعف وسائل الإعلام أو تبعيتها للسلطة، ويزيد عددهم في الأزمات السياسية ونموّ الحركات الاحتجاجية، وقبيل الانتخابات أو بعدها، وفي مواسم التغييرات الطفيفة التي تحدث في مختلف المستويات التي تمسّ أجهزة السلطة، وما من مثال أقرب إلى ذهن القارئ من "الحراك الشعبي" الذي انطلق جمعة 22 فبراير 2019، حيث نمت وكبرت واشتهرت على إثره شتّى أنواع الكائنات السفسطائية، وارتفع منسوب المزايدات والبطولات الوهمية والآمال الزائفة، وغرق البلد في وحل الثرثرة، وتبعثر المواطنون بين أمواج الثوّار الجدد، بل أنّ الوطن عانى من فائض في الثورة والوطنية بلغ حدّا لم يعد من المتاح فيه لأيّ شخص سوى أن يختار بين معسكر الثوّار الجدد أو الحرس القديم، إمّا نجم من نجوم الحراك ومعارض شرس يرعب السلطة وسيسقطها عمّا قريب، أو هو جبان حليف للسلطة ومتواطئ معها.
هكذا بكلّ بساطة، نام الجميع 30 سنة وحين استيقظوا أصبحوا ثوّارا مغاوير دفعة واحدة، دون إحماء ولا تسخين عضلات، وهل تحتاج الشرعية الحراكية المستحدثة إلى إحماء؟ كلاّ، إنّها عملية بسيطة جدّا، لكنّكم قوم تجزعون!
في غفلة من الجميع، أمست السياسة مبتذلة إلى حدّ مثير للقرف، يتحدّث الجميع في السياسة، الأمّي والجاهل والمتعلّم على حد السواء، مشجّعو الفرق الرياضية وصحافيو السلطة وأثرياء الحرب وقادة الحزيبات المجهرية وأئمة المساجد وأساتذة الجامعات وباعة الأرصفة وسوّاق القطارات والحافلات وسيارات الأجرة، من درس الفيزياء الفلكية وخرّيج معهد الفلاحة ودكتور القانون وسارق الدراجات النارية ولصوص الجيب، المدوّنون والمتلوّنون، الكتّاب والشعراء، رأس القوم وحثالة المجتمع، استوى الجميع على مضمار "البوليتيك"، واختلط الغثّ بالسمين، وارتفعت الأصوات من كل الجهات فلا تسمع إلاّ هتافا، المصيبة ليست في التعبير عن المطالب السياسية وإبداء التذمّر من ممارسات المسؤولين، ولا في صياغة الشعارات والتغنّي بالسلمية، المصيبة أنّ الحركة المطلبية أطلق عليها اسم الثورة، والشعارات دعاها بعضهم برنامجا سياسيا، والمتظاهرون أصبحوا آلهة، والعبارات العدمية صارت ممنوعة من النّقد، وكلّ موقف فيه اعتراض على شعار أو مطلب صار مردودا على صاحبه، حتى لم يعد يجرؤ على نقد الحراك الشعبي أحد، وكأنّ من تفوّه بعبارة شعبوية اتّخذت شعارا فيلسوف أو مفكّر، وإن كان الفلاسفة والمفكّرون أنفسهم يتراجعون عن بعض آرائهم ويدحضها نظراؤهم؛ فإنّ الحراك الشعبي لا يُنقد ولا يُعترض عليه، وهكذا استمرّ الوضع حتّى اصطدمت الجماهير بالجدار، فاستيقظ من استيقظ ولازال في غيّهم الهاتفون إلى اليوم، أي بعد أزيد من خمس سنين.
وإن كان مفهوما في سيكولوجية الجماهير أن يتساوى كلّ الناس حين يختلطون في الساحات، فإنّي لا أجد عذرا لمن آتاه الله علما وفهما أن يكون من السفسطائيين بعد أن يأوي إلى بيته، بل أنّ اختيار هذا النوع من الناس مجاملة الجماهير ومداهنة عواطفها جريمة أخلاقية في حقّ تلك الجماهير نفسها وفي حقّ العلم وفي حقّ الصفة التي يتصفون بها، وفي حقّ الوطن أوّلا وأخيرا. لقد كان من واجب هؤلاء ترشيد الجماهير وتوجيهها صوب المطالب الصحيحة والعقلانية التي يمكن تحقيقها، وتبسيط الخطاب السياسي لفائدتها، وكبح جموحها المتنامي منذ الأيام الأولى، بيد أنّهم تقاعسوا عن ذلك واختاروا مجاراتها، وإن تعجب من أحد فاعجب من دكتور في تخصص من تخصصات العلوم الإنسانية، بلغ خريف العمر يقوده من لم يعرف من علوم الدنيا ولا الدين شيئا، ولم ينل من السياسة قطميرا، وإن عازك الدمع فاذرف حسرة على أكاديميين هم أنفسهم عالة على الوعي والشأن العام، لا الجماهير نصروا ولا السلطة كسروا.
إنّ مثقّفا أو متعلّما وكل شخصية اعتبارية تخشى مصارحة الجماهير، هي شخصية لا تستحقّ أن يُسمع لها، ولا يجوز أن تتصدّر مجالس السياسة، وأحرى بها ألاّ تدّعي لنفسها القيادة والريادة، ذلك أنّها خانت وظيفتها، وتكاسلت عن أداء الواجب الاجتماعي المنوط بها، ولم تهبط إلى مستوى الجماهير لتبثّ فيها الوعي وتطعّمها بشيء من الثقافة السياسية التي تفتقر إليها.
خاطب لينين قادة البلاشفة ومثقّفي الطبقة العاملة ذات يوم كلمات تنضح حكمة ووعياً، فقال:
عليكم ألاّ تهبطوا لمستوى الجماهير؛ إلى مستوى الفئات المتأخرة من الطبقة العاملة فحسب، وهذا مما لا جدال فيه، عليكم أن تفضوا إليها بالحقيقة المرة، عليكم أن تسمّوا أوهامها الديمقراطية البرجوازية والبرلمانية أوهاما، وعليكم مع ذلك أن تتابعوا على نحو سليم الحالة الحقيقية لوعي واستعداد الطبقة لا طليعتها فقط، الجماهير الكادحة كلها لا أفرادها المتقدّمين فحسب.
وما ينطبق على جماهير الطبقة العاملة ينطبق على الجماهير بأنواعها، وما يراه لينين من واجب الطليعة الشيوعية المكونة من مثقفي الطبقة، هو في الحقيقة واجب كلّ المثقفين والمتعلّمين في كل البلدان ولدى كلّ الشعوب، لاسيما تلك التي ترزح تحت الجهل والأمية ولا تعلم أنّها كذلك، تماما مثل شعبنا المُبتلى بسلطة جائرة، وطبقة مثقفة خائرة، وجماهير حائرة.
17 تعليقات
مختار دباشي
٢٠ سبتمبر ٢٠٢٤بن علي أحمد
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤حسان أحمد شكاط
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤سفيان
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤مراد منصوري
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤هالة بوزغاية
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤هالة بوزغاية
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤عزالدين فنيط
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤Hicham
٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤Dridi Wahid
٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤صالح بن
٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤كمال وادو
٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤marouenb50@gmail.com
٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤أحمد بن عامر
٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤Abderrahmen Saadi
٢٧ أكتوبر ٢٠٢٤أمين مروان
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٤فريد بوعكاز
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٤