سوريا ما بعد الأسد: تحدّيات الداخل وإكراهات الخارج (2)
بعد أن سقط بشار الأسد، عاد الحديث من جديد في وسائل الإعلام العربية والدولية إلى قضية قديمة متجدّدة، ليطرح السؤال حول دور سوريا الجديدة في إمدادات الطاقة من الخليج العربي إلى دول أوروبا، وتحديدا من دولة قطر عبر تركيا فيما يعرف بخط قطر-تركيا للغاز، وبين من يرى بأنّ الدولتين سعتا بجهد إلى إسقاط نظام الأسد ليتسنّى لهما تنفيذ المشروع وبين من يرى بأنّ المشروع لم يعد يأخذ حيّز الأولوية بعد حرب أوكرانيا وتقدّم الولايات المتحدة الأمريكية لسدّ الفراغ الذي تسبّب فيه تفجير خطّي نورد ستريم 1 و2

خط الغاز القطري-التركي
في بحر البلطيق سنة 2022 والعقوبات على روسيا، فإنّ الثابت أن الطّاقة بصفتها أحد محدّدات السياسة الخارجية للدول المنتجة والمستوردة للنّفط ستكون ملفّا ثقيلا سيطرح على الإدارة السورية الجديدة.
إذا اتفقنا أن تركيا وقطر كانتا أكثر حماسا لإسقاط الأسد لتنفيذ المشروع فإنّ روسيا وإيران في المقابل تدخّلتا بقوّة للحفاظ على حكم الدكتاتور الفارّ لمنع قطر من منافسة الغاز الروسي والإيراني في منطقة الاتّحاد الأوروبي من جهة، ولمنع تركيا من أن تكون محوّلا رئيسيا لخطوط الإمداد بين قارّتي آسيا وأوروبا خاصة أنّ خطّ ترك ستريم يمرّ على أراضيها من روسيا عبر البحر الأسود، وبالمحصّلة لا الدولتان المصدّرتان ولا الدول المستوردة تريد أن يكون الغاز حصرًا بين الأيادي التركية في منطقة أوراسيا حيث لا صوت يعلو فوق صوت الطاقة.
إذن، ما فرص إعادة بعث خط الغاز قطر-تركيا؟ وكيف سيكون موقف الإدارة السورية الجديدة من القضية في حسابات الفرص والمخاطر؟
القبضة الحديدة لروسيا ومحاولات الفكاك الأوروبية
في سنة 2016 بلغت نسبة إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي 39.9% من إجمالي واردات الغاز في الاتحاد، كان ذلك بعد سنتين من قرار فلاديمير بوتين ضمّ جزيرة القرم إلى روسيا الاتّحادية، في تلك اللحظة تذكّرت أوروبا أنّ مصانعها الكبرى تحت رحمة الغاز القادم من الدولة التي يعتبرها حلف شمال الأطلسي خطرا على منطقة اليورو، لكنّ الأوروبيين لم يكونوا يجهلون هذه الحقيقة وإنّما كان لسان حالهم يقول نمسك اليد الروسية باليمين ونبحث عن البديل بالشمال، وهكذا مدّت الأنظار قبل أزمة القرم بسنوات نحو الشمال فكانت النرويج المنافس الأوّل لروسيا في سوق الطاقة الأوروبية، وتشير الأرقام إلى تقدّمها الآن على جميع المنافسين، فهي تتصدر قائمة أكبر مصدري الغاز عبر الأنابيب إلى الاتحاد الأوروبي بحصة بلغت 56% خلال الأشهر الـ4 الأولى من عام 2024، تلتها روسيا والجزائر في المركز الثاني معًا بحصة بلغت 18%، أي باستعادة روسيا لجزء من حصتها التي فقدتها السنة الماضية حيث حققت زيادة بأكثر من 13% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2023، ممّا يؤكّد أن روسيا مازالت تتحكّم بنسبة معتبرة في إمدادات الطاقة على الرغم من تلويح الاتحاد الأوروبي بإمكانية عدم تجديد العقود مع موسكو بنهاية سنة 2027.
وإذا نظرنا إلى الصورة الكاملة، سنجد أنّ الروس والأوروبيين كلاهما لا يسعيان إلى الصدام لولا المطرقة الأمريكية لتقاطع مصالحهما في موضوع الطاقة، فموسكو لا تريد خسارة السوق والدول الأوروبية الصناعية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا لا ترغب برهن أمنها الطاقوي للولايات المتحدة الأمريكية ولا بالتّبعية لموسكو في هذا الشأن، وفي طريقها إلى تنويع مصادر الطاقة تبرز قطر على الساحة في وقت حساس يشهد تغيّر الواقع السياسي في دولة العبور الآسيوية سوريا، ودولة المرور الأوروبية أوكرانيا، مع مجيء التاجر ترمب الذي استبق تنصيبه الرسمي بتهديد أوروبا علنا إذا لم تتخلّ عن الغاز الروسي وتستبدله بالأمريكي.
خط قطر- تركيا: الصعب الممكن
في عام 2000، اقترحت قطر بناء خط أنابيب غاز طبيعي بقيمة 10 مليار دولار بطول 1500 كيلومتر عبر المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا، ومن سوريا يتفرع الخط إلى ثلاثة اتجاهات، يتجه الأول نحو طرابلس لبنان، والثاني إلى اللاذقية السورية، في حين ينحو الثالث إلى تركيا ومنها إلى بلغاريا واليونان باتجاه أوروبا الغربية، كان الهدف من الخط هو ربط قطر مباشرة بأسواق الطاقة الأوروبية، الأمر الذي من شأنه أن يمنح الدوحة هيمنة حاسمة على أسواق الغاز الطبيعي العالمية ويعزز قوة قطر الإقليمية في الشرق الأوسط.
على الرغم من الفوائد الكبرى التي كانت ستجنيها سوريا من المشروع، رفض بشار الأسد في عام 2009 السماح لخط الأنابيب بالمرور عبر الأراضي السورية استجابة للرغبة الروسية والإيرانية مما أدى إلى تجميد المشروع، فقد كانت وماتزال موسكو وطهران تريان في المشروع ضربة اقتصادية كبرى لهما، وهو ما جعلهما تدخلان بقوة إلى جانب نظام الأسد لحمايته من السقوط حفاظا على سوقهما الأوروبية، وصرفتا لأجل ذلك ملايير الدولارات، وسيّرت إيران ميليشياتها وحرسها الثوري لحماية النظام الطائفي في بلاد الشام من أجل أهداف متشابكة يختلط فيها الدافع العقدي لتعزيز الهلال الشيعي بالدافع الجيوسياسي لإنشاء خطوط دفاع متقدّمة في مواجهة الكيان الصهيوني، مع رغبة غير معلنة في حماية مصالحها الاقتصادية بالقضاء على مشروع نقل الغاز القطري إلى الأسواق الغربية، علما أن طهران تسعى في إطار إحياء الاتفاق النووي لإنشاء خط مماثل يزوّد أوروبا بالغاز الإيراني. وينطبق الأمر نفسه على روسيا المتحمّسة لوضع قدم في شواطئ البحر المتوسّط، وتعزيز حضورها العسكري في الشرق الأوسط، مع ضرب مشروع نقل الغاز الذي تحاول الدولة الصغيرة صاحبة أكثر من عُشر احتياطي الغاز في العالم تنفيذه في المنطقة (تملك قطر حوالي 13% من احتياطي الغاز العالمي في المرتبة الثالثة، وثاني مصدّر بعد روسيا).
وبالنظر لأهمّية المشروع في تقويض المصالح الإيرانية لا ينتظر أن تسلّم إيران بسهولة لتركيا وقطر في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، فطهران أحوج من روسيا لإسقاط المشروع باعتباره يعزّز قوة المنافس الإقليمي الذي تمثّله تركيا، ويقضي على النفوذ الشيعي في المنطقة بدعم أنقرة والدوحة، ويعيد المارد السنّي إلى مسرح الأحداث بعد عقدين من سقوط نظام صدام في العراق، وتشرذم الجغرافيا السنّية تحت ضربات المحور الشيعي والتحالف الأمريكي في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان، وحين تتداخل العقيدة مع المصلحة الاقتصادية يستميت العدوّ في القتال، وهذا ما نرى بوادره في تحرّك الخلايا المسلحّة في جبال العلوية على امتداد الساحل، وقد يتّسع إذا لم تتّخذ الإدارة الجديدة موقفا حازما وتلجأ إلى تأسيس المحاكم الانتقالية وتطبيق الأحكام العرفية.
بالنسبة لتركيا، فإن بناء خطوط أنابيب الغاز يهدف إلى استفادتها كدولة عبور استفادة مباشرة، كما يمنحها فرصة للاندماج في السياسة الأوروبية، وهو ما حاولت تركيا تحقيقه منذ فترة طويلة من خلال التقدم بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويعطي خط أنابيب الغاز قطر-تركيا للأخيرة دورًا مضاعفا في التحكم بإمدادات الطاقة إلى أوروبا حين يجتمع مع خط ترك ستريم القادم من روسيا نحو أوروبا ليعزّز موقفها التفاوضي من كلّ النواحي؛ سواء مع شركائها المصدّرين أو نظرائهم المستوردين، وهي مكانة محورية لا تخفي تركيا سعيها إلى إنجاحها منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.
ولمّا كان من المعلوم أنّ تركيا لا تستطيع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي لا يرغب في تحمل مخاطر تدفق المهاجرين من إيران والدول العربية وتركيا نفسها، ولا يريد إدخال دولة ذات أغلبية مسلمة إلى النادي المسيحي فإنّ الأتراك من جهتهم يسعون إلى ربط عنق الاتّحاد في أنابيب الغاز لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية، وكلا الطرفين يعلمان أنّهما في حاجة إلى التعاون الحذر في موضوع الطاقة، فاعتماد تركيا على الاتحاد الأوروبي هو تجسيد لشكل من أشكال البقاء الذي تسعى تركيا من خلاله إلى تكثيف خطواتها لتعزيز وجودها في منطقة الاتحاد الأوروبي، ومفهوم البقاء هنا يعني أن تركيا يجب أن تحافظ على استقرارها السياسي والاقتصادي والأمني بناء على فرض نفسها كدولة ممرّ لإمدادات النفط بما أنّ الطبيعة لم تمنحها فرصة أن تكون أحد منتجيه، وهي لعبة تجيد تركيا ممارستها في سياق الصراع الأبدي بين الغرب والشرق.
إذن، من الناحية النظرية يوفّر سقوط نظام الأسد فرصة ذهبية لإعادة بعث المشروع، وستستفيد قطر وتركيا وسوريا ودول الاتحاد الأوروبي منه اقتصاديا بما يخدم أهداف كل طرف، لكن من الناحية العملي، هناك كثير من الرهانات التي يقتضي تجاوزها للبدء في إنجاز المشروع.
تنفيذيا، لا يتعلّق المشروع بالدول المذكورة آنفا فقط بل يتعدّاها إلى دول العبور الأخرى مثل الأردن والمملكة السعودية، وهذه الأخيرة تستطيع أن تكون شريكا في المشروع وتنخرط فيه وفقما كانت عليه الرؤية المبدئية بداية الألفية، أمّا الأردن فسيستفيد من المشروع كذلك بصفته دولة ممرّ، لكنّ الاثنين لن يتجرّآ على الانخراط في المشروع كما هو معلوم دون ضوء أخضر أمريكي، ومن هنا تنبع الحاجة إلى صياغة تفاهمات دولية وإقليمية للمرور إلى إنجاز خط الأنابيب. ومن ناحية أخرى، يبقى تحدّي الاستقرار في دول العبور مسألة حسّاسة، ليس في سوريا فحسب بل أنّ الأردن يمكن اعتباره خاصرة رخوة مرشّحة في أيّ لحظة للانفجار، وهو ما يضع المشروع أمام مخاطر كبرى في حال تغيّرت الأوضاع في المملكة الأردنية.
القيادة السورية الجديدة واختبار التفاوض
بالنسبة إلى دمشق، يعدّ مشروع خط الغاز القطري هديّة منحتها الجغرافيا لسوريا في لحظة تاريخية لا تعاد مرّتين، وما على أحمد الشرع ورفاقه في القيادة الجديدة سوى استغلال الفرصة للتفاوض مع كلّ الأطراف تحقيقا لمجموعة من الأهداف الاقتصادية والسياسية دفعة واحدة؛ فإن كانت قطر وتركيا داعمتان من البداية للإدارة الجديدة فإنّ ذلك يعطي السوريين فسحة للعب ورقة خطّ الغاز لاستدرار كلّ أنواع الدعم المالي واللوجستي والدبلوماسي من الدوحة وأنقرة والرّياض في كلّ السياقات وكلّ القضايا من الأمني المتعلّق بالقضاء على الفصائل الكردية وجيوب النظام السابق، إلى ضخ الأموال في البنوك السورية المنهارة إلى دعم دمشق دبلوماسيا في مواجهة التمدّد الصهيوني في الجنوب، وإن كان في الوسع ضمان غطاء سياسي لأيّ تحرّك عسكري ضد جيش العدوّ في المناطق التي احتلّها حديثا، ذلك التحرّك يبدو الآن غير منتظر لكنّه صدام لابدّ منه في المرحلة المقبلة، وكلّها أوراق لا غنى للإدارة الجديدة عن استغلالها، ولا مهرب للدول الثلاث من تنفيذها بالنظر إلى أهمية المشروع الموعود، وقد لاحظنا في هذا السّياق التحوّل الكبير في الموقف السعودي من القيادة الجديدة، فبعد أن كانت الرياض أبرز المتحمّسين لإعادة تأهيل الأسد نراها اليوم تسارع إلى التعبير عن دعم القيادة الجديدة لمّا لاحت بوادر إعادة بعث مشروع تصدير الغاز مباشرة نحو السوق الأوروبية.
والمشروع كذلك ورقة في أيدي المفاوض السّوري مع نظيره الأمريكي الساعي إلى القضاء على الوجود الرّوسي في المنطقة، فإذا كانت موسكو تخشى فقدان سوقها الأوروبية فإنّ دمشق تستطيع مدّ حبل النجاة لها أو التّلويح به لمساومة واشنطن برفع الغطاء عن ميليشيا قسد حتى وإن كان الموقف الأمريكي غير واضح تماما بشأن المشروع برمّته بالنظر إلى رغبة دونالد ترمب في إجبار أوروبا على التوجّه إلى أسواق الطاقة الأمريكية لكنّ المعطيات تشير إلى أنّ الاتحاد الأوروبي لن يرهن أمنه الطّاقوي لأمريكا بعد تجربته المريرة مع روسيا لاسيما في ظلّ صعود أحزاب اليمين وارتفاع الأصوات المطالبة بالفكاك من الشرنقة الأمريكية.
من المنظور الاستراتيجي، لن تقبل الدول الكبرى في أوروبا باستبدال روسيا بأمريكا وحصر خياراتها بين القوّتين، لذلك فإنّ المسعى الأوروبي لتنويع مصادر الطاقة يمثّل مدخلا مهمّا لتبادل المنفعة مع تلك الدّول إذا أحسنت القيادة الجديدة إدارة المفاوضات بالشّكل المطلوب لأنّنا أمام ما تعتبره أوروبا منفذا يستنقذها من مساومات الروس والأمريكيين معا، ولا يعني ذلك أنّ الأوروبيين سيربطون أمنهم الطاقوي بأنقرة أو الدوحة فحسب، إنّما تشير حسابات المصلحة إلى أنّ تعدّد الشركاء يوسّع دائرة المناورة، فأوروبا التي تعتمد على غاز قطر والنرويج وروسيا وأمريكا وأذربيجان والجزائر أقوى من أوروبا التي تعتمد على روسيا بنسبة 40%، وهي معادلة يدرك الاتحاد الأوروبي أنّه مجبر على التعامل معها مهما كانت مآلات الحرب في أوكرانيا.
بالمحصّلة، يشكّل خط الغاز قطر-تركيا فرصة للدولة السورية الجديدة لفرض نفسها في المنطقة بعيدا عن الارتهان للداعمين إذا أحسنت إدارة الملف وتكييفه مع مصالحها الحيوية واستثماره لإعادة بناء الدولة المدمّرة، وهو ليس التحدّي الوحيد بطبيعة الحال لكنّ ملف الطاقة كان وسيبقى واحدا من أهمّ الأبعاد في صناعة السياسة الدولية والتأثير فيها، وحريّ بسوريا المتحرّرة من الحكم الطائفي أن تضع قدمًا على خطوط نقل الطاقة بما يتناسب مع طموحها وموقعها الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط.
10 تعليقات
أحمد العربي سعداني
٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤عزالدين فنيط
٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ابوبكر
٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤بوبكر علوي
٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤بوعكاز فريد
٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤بوعكاز فريد
٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤جباري
٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤Amel
٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤حسام الدين
٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤وحيد دريدي
٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤