وطني أوّلا، بلادي على الأقلّ...
كل من يتابع وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يلاحظ أن هناك فجوة عميقة ما فتئت تتعمّق بين أفراد المجتمعات العربية، ظهرت منذ بداية الثورات المضادة ثم تعمّقت بعد صفقة القرن ثمّ العدوان على غزة، وشهدنا لأوّل مرة في التاريخ انفصام عرى التضامن العاطفي بين الشعوب العربية، والتضامن كما تعلمون هو أوهن الروابط بين أبناء الأمّة الواحدة وهو أضعف الإيمان

دونالد ترمب مع ولي العهد محمد بن سلمان
وأضعف الإيمان هو آخر ملجأ هرعت إليه شعوبنا بعد أن تركت أقوى الإيمان وأوسطه، ولماذا ستسعى إلى ما هو أكبر من أضعف الإيمان مادمنا نحبّ أن غير ذات الشوكة تكون لنا. أقول أنّ السنوات الأخيرة أثبتت لنا أنّ التضامن كذلك يوشك أن يندثر بين شعوبنا وحتى بين أفراد الشعب الواحد بعد أن سيطرت الشوفينية الوطنية على خطاب الإعلام وتلك الكائنات المثيرة للتقزّز، أعني تلك التي يسمّونها النخبة المثقفة، أي تلك الدواجن التي تعيش في خمّ أنشأه الحاكم ويديره زبانيته، والشوفينية أو الوطنية الرخيصة كما سماها الكاتب الأمريكي لويس لابام تعني رفع الأعلام والتراشق بالشعارات والنّبش في التاريخ وصناعة الأساطير من طرف فئة من الشعب للتباهي بها أمام فئة أخرى أو لمناكفة شعب آخر، وهذه الحالة النفسية تزدهر بازدهار الشعبوية، ولا أظنّنا نعيش في زمن أكثر شعبوية من هذا الزمن الأغبر الذي صار فيه الحاكم العميل رمزا للوطن، يساوي انتقاده الردّة عن الدين أو يزيد، فاحذر إن لم تسر في دروب الشوفينية أن تكون من المرتدّين عن دين الوطنية الرخيصة!
يبرّر هؤلاء أفعالهم بما اجترحوه لأنفسهم من مفاهيم مشوهة وأعانهم عليها جهل الجماهير وسهولة انقيادها للأكاذيب، فاختلقوا لكل دنيّة مبرّرا سمّوه المصلحة الوطنية، فجعلوها حبلاً يجرّون به المغلفّلين إلى مهاوي السفالة بدعوى الانتماء والحرص على مصلحة الوطن، فنحن كما قال العقاد قد ’’ابتلينا في هذا الزمان بقوم تحركهم مصلحة لا هي مصلحة في ذاتها ولا حقيقتها ولا حاضرها ولا مآلها’’، وأيّ مصلحة تكون في التخلّي عن إخوة لنا يحاصرهم إخوة لهم –زعموا- ولا يتحرّكون لكسر الحواجز بينهم وبينهم بداعي الخوف على مصلحة الوطن؛ يظنون ذاك الوطن الموهوم في منأى عن الأذى حين يجدّ الجدّ وينهزم أهل الجهاد ويخلو لليهود القياد، وما أولئك بالمهزومين بإذن الله وما هؤلاء بالمنتصرين، إنّما هي أوهام تعلّقت بها الأنفس الضعيفة إيثاراً لسلامة الأبدان وغفلة عن سلامة الدين.
ونحن كما أردف العقّاد ابتلينا إلى جانب من يتحركون بدافع المصلحة المتوهمة بقوم يتدثرون بالعقائد وما هم بأهل عقيدة، فهم كما يقول: ’’والمتدثرون بالعقائد لم يعودوا يملكون منها غير الاسم والشعار فقط فكانت مصلحة خفية زادوا بها تيه الناس فظن الجميع أن ثمن العقيدة رخيص هكذا’’، وهكذا أضلّ هؤلاء غيرهم وأوهموهم أنّ نصرة المظلومين يكفي فيها مناشدة الحكومات وعقد المؤتمرات وجمع التبرّعات -وبعضها خير- دون الجرأة على كسر القيود وتجاوز الحدود حرصًا على مصلحة الوطن كما يدّعون، فاستمرأت الجماهير القعود واستعانت على عذاب ضمائرها بتبرير المبرّرين من المتدثرين بالعقائد، وخدّرها ’’المثقّفون’’ بدعاوى الوطنية الرخيصة فصار الحال ما ترى والله المستعان.
والوطنية الرخيصة تعبير عن الفردانية بوجه آخر غير وجهها المعروف، فتسمع الناس إذا سئلوا عن تخاذلهم في نصرة إخوانهم يردّدون عبارة: (وطني أولا) بديلا عن (نفسي أولا)، يهربون من واجب الوقت أي الوقوف صفّا مع المجاهدين بواجب مؤجّل، أي القتال من أجل أوطانهم في المستقبل، ولو سئلوا القتال ذات يوم لنكصوا على الأعقاب ثم لا ينصرون. والقوم قد تجاوز بعضهم مرحلة الخذلان إلى تبريره، بل أن فئام من الأراذل وهم من عليّة القوم في بعض البلدان صاروا يزايدون على حكامهم بالتشفّي في الشهداء والشماتة في المصابين الذين يقاسمونهم الدين والدم ويتميّزون عنهم بالكرامة والإباء والأنفة، وتلك صفات ليس أجلّ منها في ميزان المروءة غير الموت في سبيلها.
قد يقول قائل أنّ ما نراه حالات معزولة وأنّ تلك الوجوه الكالحة فئة مارقة لا تمثّل الشعوب، وفي قوله بعض الصّواب لكن ليس كلّه، فالناس على دين ملوكهم والأفكار التي تبدو شاذة في البداية توشك أن تكون عرفاَ لا يزيغ عنه أحد بعد سنين، فانظر إلى كلمة التطبيع مثلا، كان مجرّد ذكرها معرّة يخشى الملوك والرؤساء تداولها فيما بينهم مخافة السخرية والترذيل والآن أصبحت تسمّى حكمة وحنكة سياسية، وانظر إلى خارطة فلسطين كلّ فلسطين، لم يعد أحد يسعى إلى تحريرها من النّهر إلى البحر بل صار أشجع القوم يريدها على حدود 1967 أي على أقلّ من ربع مساحتها، ثم تصفّق له الشعوب تهليلا وتقديرا على قوّة الموقف وفحولة الخطاب، وما أعظمه من خطب أي يصبح الخصيان فحولا في أعين الجماهير، وانظر إلى تلك الجماهير التي قنعت بالقليل من الكرامة فصار شعارها: (نحن على الأقل...) على الأقل لم نطبّع، وعلى الأقلَ ليست لدينا سفارة للاحتلال، وعلى الأقلّ لسنا كجيراننا، وعلى الأقلّ نندّد ونعقد اجتماعات لمجلس الأمن... وتوشك أرجوزة الأقلّ أن تكون رأي الأكثرية، ومن رضي بالقليل أضاعه ولو بعد حين.
يقول غوستاف أن ’’الأسس الجوهرية لروح الأمة تتلخص في ثلاث عناصر: وحدة المشاعر، ووحدة المصالح، ووحدة العقائد، والأمة إذا ما بلغت ذلك اتفق جميع أبنائها بالغريزة على جميع المسائل المهمة وعاد لا يبدو فيها كبير شقاق’’، ونحن أمّة لها عقيدة واحدة لا تبديل لها إلى يوم الدين، ويفترض أن مصالحنا واحدة بمعياري السياسة والجغرافيا، لا يحتاج الأمر إلى كثير دراسة حتى نعلم أنّ العدوّ يرانا واحدا وإن رأينا أنفسنا أشتاتاَ، ورأي العدوّ فينا في هذا الخصوص أهمّ من رأينا في أنفسنا فنحن أمّة واحدة ومصيرنا مشترك ولو كره بعضنا ذلك، حين غزانا التّتار ما فرّق بين بغداد وشام، ولمّا شن الصليبيون حربهم علينا لم يفرّقوا بين مصر وبيت المقدس، ولمّا بدأت قوى الاحتلال القديم مشروعها لم تفرّق بين قسنطينة والرباط فتقاسمتنا بين احتلال مباشر وحماية وانتداب، ومعلوم لذوي العقل والدّين أنّ المشركين يقاتلوننا كافّة وقد أمرنا أن نقاتلهم كافّة، لكن كيف سنقاتلهم وقد صيّرنا العقيدة طقسا كطقوس النّصارى، وفرّطنا في مصالحنا وأراضينا وأهلينا ونوشك أن نتحسّس رقابنا فلا نجد غير سكاكين الأعداء. أما وحدة المشاعر فتكاد أن تتلاشى وهي آخر معتمَد، وهي محرّك الجماهير ووقودها حين لا يبقى لها قائد يوجّهها، وهذه الوحدة العاطفية مسّتها يد الحكومات وأعملت فيها شفرة الفرقة وأشربتها قيم الوطنية الرخيصة فلم يعد للعاطفة قوّة إلا في الحشد لهؤلاء الأقزام في مواسم الانتخابات والمهرجانات، أمّا حين يتعلّق الأمر بالقضايا الكبرى فنحن –والحمد لله- نسير في دروب (على الأقلّ) مثقلين.
8 تعليقات
أبو حفصة
٨ نوفمبر ٢٠٢٤نعيمة لونيس
٨ نوفمبر ٢٠٢٤وردة
٨ نوفمبر ٢٠٢٤وردة
٨ نوفمبر ٢٠٢٤عبد الستار محمدي
٨ نوفمبر ٢٠٢٤حسام الدين
٨ نوفمبر ٢٠٢٤مختار دباشي
٨ نوفمبر ٢٠٢٤رحيم عبدالواحد
٩ نوفمبر ٢٠٢٤