أيّها السائلون عن الحلّ: ما المشكلة؟
في الشأن العام، ما من أحد يكتب أو يتحدّث عن المسائل الشائكة في المجتمع والدولة إلاّ ويأتيه ذلك السؤال المكرّر من طرف أشخاص يتابعون ما يجري بانتباه أو فضول: ما الحلّ؟ كلمتان تضعان المتحدث أمام تحدّي شرح موضوع طويل قد يحتاج إلى دراسة مستفيضة ليحيط ببعض جوانبه، سؤال أشبه ما يكون بمحاولة لإسكات الناقدين وإحراجهم أكثر مما يوحي به من عزم على العمل والبحث عن طرائقه وأدواته.

والسائلون عن الحلّ أنواع؛ منهم من يريد استيضاح الطريق ليكون له سهم في تنفيذ الحلول، ومنهم من غرضه الفذلكة ليظهر في صورة الباحث المستقصي، وآخرون يريدون معرفة الحلّ لا من أجل تنفيذه بل من أجل تنصيب أنفسهم أساتذة يقيّمون صحّته من عدمها، ويصفّقون للعامل إذا نجح ويسلقونه بألسنة حداد أشحّة على الخير إذا اجتهد فأخطأ، والغالب أنّهم سيشكّكون فيه قبل أن يبدأ، وما أكثر أعضاء تلك الطائفة القعدية ذات الألسنة الطويلة والأذرع القصيرة.
وأنت تسمع سؤال "ما الحل؟" يذهب ذهنك إلى ما ذهب إليه ذهن فلاديمير لينين بعد إضرابات الطلبة الروس سنة 1901، ولعلّك تفكّر فيما فكّر فيه فتصدر كتيّبات بعناوين تشبه عناوين الكرّاسات والمقالات التي نشرها بين 1902 و1904 في مجلّة الإيسكرا، مرة تجيب عن سؤال: بم نبدأ؟ ومرة تحاول أن تتبّع المسائل الملحّة وتفصّل في الردّ على سؤال: ما العمل؟ وقد يخرج من بين المثقفين من يردّ عليك بكتيّب آخر يبيّن لك فيه المهامّ السياسية التي ينبغي عليك الاضطلاع بها كما فعل ليون تروتسكي ردّا على لينين. وليت قومنا مثل أولئك الشيوعيين على استعداد للغوص في السجالات الفكرية والسياسية العميقة التي تمسّ الواقع وتشتبك مع الأسئلة الصعبة!
إنّ أولئك الذين يسألون عن الحلّ أجدر بأن يسألوا عن المشكلة أوّلا، لقد حدث ذات يوم أن سألني أحد الأكاديميين عن الحلول فطلبت منه أن يبيّن لي ما استشكل حتّى نتعاون على البحث في الحلول وإعداد طرائق تنفيذها فأجابني بما لم أتوقّعه من أستاذ جامعي: "المشكلة هي هذا النظام الحاكم". يا للعبقرية، أتى الرّجل بما لم يستطعه الأوائل، ثم راح مسترسلا ليقنعني أنّ الحلّ في إسقاطه، فسألته عن كيفية إسقاطه فما كان منه إلاّ أن يردّد تلك العبارة التي أجزم أنّ كل من يقرأ هذه الكلمات سمعها أو نطق بها: "يجب أن يسقط النظام". فليسقط غير مأسوف عليه، لا مشكلة لديّ أبدا في أن تسقط كلّ الأنظمة والحكومات، لكن من هذا الذي يجب عليه أن يسقطه وكيف ومتى وما البديل الذي سيحلّ محلّه إذا سقط. سألت أستاذنا المبجّل فأطرق كأنّ على رأسه الطّير، إنّها أعراض مرض مزمن يعاني منه أغلب أفراد المجتمع ولا يشعرون بخطورته، مرض الهراء وإسهال استسهال الحلول؛ وصفة الوجوب التي يكتبها الجميع للجميع من دون أن يعرف أحد ما الذي يجب على من ولماذا ومتى وكيف!
في الجزائر وربّما في جميع بلدان الاستبداد يقول الناس كلمات لم يفكّروا في معانيها، ويردّدون شعارات جاهزة أشبه ما تكون باللّوازم الشعرية، يكفي أن تحذو حذو بافلوف؛ قم بالتّنبيه وستتم الاستجابة التلقائية، اقرع الجرس فيسيل اللّعاب، ليس عليك بذل جهد لتحفيز المنعكس الشرطي لدى الكائنات البشرية والحيوانية معا مادمت تتعامل مع الغريزة، فإذا كان كلب بافلوف يسيل لعابه عند سماع الجرس لأنّ التنبيه ارتبط لديه بتقديم الطعام فإنّ كثيرا من الأفراد تتدفّق إجاباتهم طبقًا للأسئلة المعتادة من دون تفكير في ماهية السؤال وحقيقته، فقد يكون السؤال خاطئا من الأساس وقد يكون الردّ عليه غير ذي علاقة بفحواه، لكنّ السائل والمجيب لا يجدان غضاضة في مواصلة الهذر، وبذلك ازدهر حوار الطرشان وتعب العقلاء في فهم ما يقول المجانين.
السؤال عن الحلّ السياسي سؤال عميق ومشروع لا ريب في ذلك، بيد أنّ البحث في طبيعة المشكل أولى، فما معنى أن نتحدّث عن المجهول ونجدّ السير في دروب الحيرة ونحن لم نضبط تفاصيل المعضلة ولم نحط بمختلف أبعادها. الأحكام العامة تعوّم القضايا وتنحرف بها عن أصلها، والشعارات المجملة تثير الحماسة وتوهم المرء بالإنجاز وفي النّهاية يكتشف أنّ ما ضاع من وقته راح في سبيل لا طائل من ورائه، وهذه واحدة من أعظم مشكلاتنا، إنّنا لا نطرح الأسئلة لنحصل على أجوبة، ولا نبحث عن الأجوبة لننطلق في البذل بناء على نتائجها، وكلّ سؤال لا يترتّب عليه عمل فهو ردّ، أعني أنّه ثرثرة تشتّت العقل وتجهد النّفس ثم تلد اليأس والقنوط ولعن الواقع والمتسبّبين فيه.
قبل السؤال عن الحلّ على الفرد أن يسأل نفسه عمّا إذا كان مستعدّا للمشاركة في إيجاده أو تنفيذه على الأقل، وأن يكره نفسه على الصّمت إن عجز عن إكراهها على العمل وأن يحرص على ألاّ يؤتى العاملون في سبيل الإصلاح من قبله، وكفى بالصمت مساندة في زمن صارت فيه شهوة الحديث أطغى من كلّ الشهوات، وفتحت فيه وسائط التواصل باباً للهراء لا يكاد يسدّ، هذا هو أوّل حلّ لأوّل مشكلة وهي مشكلة الثرثرة ورمي الكلمات على عواهنها والفذلكة.
أيّها السائلون عن الحلّ، سأخبركم عن المشكلة حين تنتقلون من مرتبة السؤال عن الحلّ إلى البحث عنه، وقبل أن تفعلوا دعوني أخبركم ببعض الشروط:
إن كنتم تريدون حلاّ اعرفوا المشكلة، فلا طبيب يصف دواء قبل تشخيص مريضه، والطبيب الحاذق يبحث عن أصل الداء من أعراضه، ومن يعامل العرض بصفته مرضًا سيموت بعد حين. أمراض الدول مثل أمراض البشر منها ما طفح فيعالج بالمسكّنات ومنها ما تنفع معه الأدوية، ويوجد ما يحتاج إلى استئصال الأورام، إذا كنت لا تتحمّل الكلفة والألم لا تتقدّم، وخير لك أن تترك القوس لباريها.
السّياسة علم مثل باقي العلوم، تعّلموا نظرياته ومناهجه وافحصوها بالأدوات العلمية واعرضوها على عقولكم فإن قصرت اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، تعاملوا مع مواضيع السياسة مثلما تتعاملون مع مواضيع الفيزياء والكيمياء ولا تنظروا إليها نظرة المشعوذين والدجّالين فتضلّوا.
يقول علي عزت بيغوفيتش: " لا شيء عديم الجدوى في السياسة مثل الحديث عن أفكار رائعة لا يمكن تحقيقها"، فماذا سنقول عن أفكار رديئة تروج في السّوق!
ويقول مالك بن نبي أنّ السياسة هي ما يُنجر لا ما يقال، فإذا لم تكن مستعدّا للفعل وكانت يدك مغلولة إلى عنقك فأمسك عليك لسانك.
العمل السياسي تجسيد للأفكار، وقبل العمل لابدّ من النّظر، إذا كنت تعتقد أنّك متشبّع بالنظريات ولا تحتاج المنظّرين والمفكّرين فابدأ فيما تراه مناسبا لكن لا تصرخ إذا اصطدم رأسك بالجدار، نحن فقراء إلى الأفكار والتصوّرات أكثر مما نحن فقراء إلى تجسيدها.
إذا كنت تبتغي حلاّ جاهزا عليك بأقرب محلّ لبيع الأكل الخفيف، ليس في السياسة وكلّ فروع العلوم الإنسانية حلول معلّبة يمكن تطبيقها على كل الدول والمجتمعات، الظاهرة السياسية متغيّرة ومتشعبة بطبعها وينبغي أن نتعامل معها بمرونة تتيح لنا الفهم والتشخيص ثم العمل والتنفيذ.
اعلم أنّك تسأل عن عظيم، والفعل العظيم يحتاج إلى همم عظيمة لا يطيقها إلاّ من أوتي عزما وعلمًا وإخلاصا، من يريد أن يغيّر دولة أو شعبًا يقع عليه من الواجبات ما يقع على كلّ القادة عبر التاريخ وسيبتلى بما ابتلي به هؤلاء وسيشقى ويتعب ويكدّ قبل الوصول وقد لا يصل: "لا تحسبنّ المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصّبِرا". إذا عرفت ذلك اختر مكانك في صفّ القادة أو الجند، واعلم لكلّ واحد قدره ولا تزاحم أهل الحقوق في حقوقهم، ولا تقل كما قال بنو إسرائيل: "أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه".
وأنت تساند مشروعا أو قائدا تذكّر أنّك تحسن إلى نفسك بالعمل ولا تحسن إليه بالتشجيع، وقبل أن تطلب حقّك قم بواجبك، ولا يغرّنّك قولهم "حقّنا أن ننتقد"، وإذا دعوا إلى العمل قالوا: اذهب أنت وربّك فقاتلا. كن جنديًا منضبطا لتصبح قائدا فذّا، واعرف للناس أقدارهم فما أهلكنا إلاّ الذين يأتون في آخر المعارك ليجمعوا الغنائم، ويحوّلوا الانتصارات إلى هزائم.
السياسة مجلبة للصراعات والصدامات والعداوات، والناس لا يرفسون كلبا ميّتا، مادمت تعمل فأنت معرّض للتشويه والبهتان وغدر الخلاّن فوطّن نفسك على ذلك قبل البدء حتى لا تجد نفسك مجبرا على التراجع تحت وطأة الضغط وشدّة الهجوم.
حبّ الظهور يقصم الظهور، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، السياسة طويلة المدى كثيرة العدا قد تؤدي إلى الردّى، فازهد ووفّر جهدك للعمل، وتريّث حتى يكتمل، واثبت ولا ترتجل، واصطبر ولا تجزع، واجعل هدفك نصب عينيك لا تشغلك عنه المناكفات والحروب النفسية، وإن كنت تريدها طريقا سالكة فاعلم أنّ نهايتها خسران، فاعمل بعيدا عن عدسات المصورين وميكروفونات الصحافيين ولا تعرض بضاعتك حتّى تستوي، ولا تخدعك الصفات الكبيرة والألقاب الفخمة التي يلقيها عليك الصحافيون والعامة ثم لا يكون بعد المؤتمرات والبرامج والندوات شيء.
أخيرا، إيّاك من قناعتين: أن تتخذ السياسة سبيلا للتربّح وتحسين أوضاعك المعيشية، فإنّك لو تكسّبت بالرقص والغناء كان أهون، وأن تنتظر استواء الحال وتحسّن الوضع لتمارس السياسة كما يقول الحمقى، فما الدّاعي لتفعل إذا كانت الحال سنة والأوضاع جيّدة!
والآن دوري لأسألك: هل تسأل عن الحلّ لتعمل أم تراك تريد الهذر؟
32 تعليقات
مختار دباشي
٢٩ أبريل ٢٠٢٥محمد صدراتي
٢٩ أبريل ٢٠٢٥Choutri elhadj
٢٩ أبريل ٢٠٢٥مصطفى بوقبرين
٢٩ أبريل ٢٠٢٥شادلي يحي
٢٩ أبريل ٢٠٢٥reghdjamel@gmail.com
٢٩ أبريل ٢٠٢٥إسماعيل برادعية
٢٩ أبريل ٢٠٢٥Lazhar
٢٩ أبريل ٢٠٢٥م.ن
٢٩ أبريل ٢٠٢٥نعيمة لونيس
٢٩ أبريل ٢٠٢٥أبو رغد
٢٩ أبريل ٢٠٢٥أسامة
٢٩ أبريل ٢٠٢٥أمير ساسي.
٢٩ أبريل ٢٠٢٥عبدالباسط فرحات
٢٩ أبريل ٢٠٢٥نصيرة سعيد
٢٩ أبريل ٢٠٢٥عثمان خضار
٢٩ أبريل ٢٠٢٥Yahia Kadri
٢٩ أبريل ٢٠٢٥ت.عبد الرؤوف
٣٠ أبريل ٢٠٢٥ياسين بن حمودة.
٣٠ أبريل ٢٠٢٥محمد امين بن داود
٣٠ أبريل ٢٠٢٥Oum Elbanine
٣٠ أبريل ٢٠٢٥الرئيس محمود عباس
٣٠ أبريل ٢٠٢٥عبد الواحد رحيم
٣٠ أبريل ٢٠٢٥فارس
١ مايو ٢٠٢٥فطومة الوردة
١ مايو ٢٠٢٥تركي عادل
٢ مايو ٢٠٢٥تركي عادل
٢ مايو ٢٠٢٥حبيب حماش
٥ مايو ٢٠٢٥حمو
٢٤ مايو ٢٠٢٥أيمن بن النوي
٢٥ مايو ٢٠٢٥عبد الغني ڤرين
٢٥ مايو ٢٠٢٥عبد الغني ڤرين
٢٥ مايو ٢٠٢٥